"غذاء للقبطي" لـ شارل عقل.. سيرة المطبخ وسيرتنا

27 فبراير 2018
(حي الأزبكية القاهري بداية ستينيات القرن الـ19)
+ الخط -

إذا سألت مصريا مسلما ما عن الأقباط هكذا بشكل عام، فإن إجابته الآلية ستكون أنهم إخوتنا في الوطن، أو بصبغة دينية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، دون أن تذهب الإجابات أبعد من ذلك، والأسباب متعددة: منها انعدام الفضول لدى الأغلبية المسلمة في معرفة خصوصية "شركاء الوطن" كون ثقافة الأغلبية هي المسيطرة، أو حتى انكفاء المجتمع القبطي على نفسه لحماية خصوصيته، وربما في بعض الأحيان بدافع من السبب الأول، وليس أخيرا ما يخص غياب تفاصيل الحياة القبطية بالكلية عن المجال العام وفي الخطاب الرسمي للدولة إلا باعتبارهم أيضا "شركاء الوطن" ليس إلا.

وفي كتابه "غذاء للقبطي" الصادر عن "الكتب خان" في القاهرة، يكشف الكاتب المصري شارل عقل الحُجُب عن تلك الحياة القبطية المستترة عبر عالم المطبخ القبطي وتفاصيله وعاداته الغذائية، باسطا إياها بمهارة محب للطعام وطاهٍ خبير كما يبدو من ثنايا كتابه، إضافة لإلمام واسع بالثقافة القبطية، وهو يقدم ذلك كله بلغة بسيطة ومرحة بطموح أنثروبولوجي لا يخفى على العين.

لكن كتاب عقل ليس بالتحديد عن المطبخ القبطي، إن سيرة المطبخ هنا ليست إلا تكئة للحديث عن المجتمع القبطي بالخصوص وصورته عن نفسه في مرآة المجتمع الأكبر ذي الأغلبية المسلمة، التي يقول عقل إنها بسبب هذه المجاورة الجغرافية لسنوات طويلة مع المسلمين ظهرت فئة جديدة للوجود هم "الأقباط المتأسلمون" ما جعل الأقباط يقدمون أنفسهم في تنافسية مع المسلمين "وكيف أن هذه التنافسية ترسخت بمعايير الأغلبية، وهي في هذه الحالة معايير إسلامية. وأصبحت الهوية القبطية المسيحية في مثل هذه الظروف رمادية، متواضعة، منطوية، تنزع إلى عدم الصخب أو الاختلاف الظاهر الذي يجلب المساءلة والمشاكل".

مع هذا فإن المشاكل والمساءلة موجودة، حتى وإن اختفت تحت سطح من التسامح. يظهر هذا مثلا في الفصلين اللذين أفردهما الكاتب للحديث عن المنتجات الخلافية: لحم الخنزير والخمور، خصوصا أنهما في قلب تصورات المسلمين النمطية عن مطبخ الأقباط الخفي. وهنا لا يتورع عقل عن نقض صفة التسامح التي تُروّج باعتبارها فضيلة فيما هي "كلمة مفخخة بالعداوة والعنف والطائفية، تتضمن في مدلولها فكرة (العفو) وفكرة (التحمل) ومنها إلى منح ووهب الحرية..." كذلك يبدي استياءه من المحاولات المستميتة للأقباط للتواؤم بإفراط مع محيطهم المسلم في تبرير تعاطيهم الخمور أو تناولهم لحم الخنزير بما ينعكس على علاقة المسيحيين أنفسهم بعناصر ومعطيات الدين ودلالاته.

من خلال حكايات طريفة يبدي عقل تبرما من ذلك العنف الكامن والمستتر وراء تسييد ذوق الأغلبية أو محاولة المجتمع القبطي إرضاء نظيره المسلم والانكفاء على نفسه بمنطق التقيّة، فإنه كذلك يشير إلى أن هذا المجتمع نفسه الأقل عددا - والذي تتفاوت تقديرات كثافته بين 5% إلى 20% وفق إحصاءات أوردها الكاتب - يظل شديد الفعالية في تأثيره الاقتصادي على سوق الصناعات الغذائية "فبما أن هذه النسبة تتحرك ككتلة واحدة تقريبا في أوقات الصيام وغير الصيام، بدون انحرافات تذكر، فلا بد أن يأخذها العاملون في الصناعات الغذائية في الحسبان، فعندما يتحول خمسة ملايين فرد على الأقل إلى الانقطاع عن بعض المأكولات والتوجه إلى غيرها يصبح ذلك مؤثرا على معدلات بيع هذه المنتجات...".

لكن هذا التأثير الاقتصادي لا يبدو أنه يأخذ حيزه النظير من الظهور الاجتماعي، وعبر فصول كتابه العشرة يشرّح عقل هذا الاختفاء القبطي عبر الولوج بالقارئ إلى عمق خصوصية هذا المجتمع: مطبخه، فيما يبدو أن الأمر لا يقف عند حدود الوصفات الصيامية وأنواعها العديدة المبسوطة في الكتاب، لكنه يتجاوزها إلى تبيان التاريخ الاجتماعي لمصر المعاصرة، معرّياً العنف الرمزي المستتر في علاقة مسلميها بمسيحييها، أو كما يقول "طالما كانت نحن وهُم".

دلالات
المساهمون