01 أكتوبر 2022
"عبد الناصر كان محظوظاً بإعلامه"
مشهد مبهر جديد في تحولات الإعلام المصري: مجموعة فالكون للخدمات الأمنية تشتري شبكة قنوات الحياه بمليار و400 مليون جنيه!
الشركة التي يعمل فيها قياديون سابقون من أجهزة الأمن والمخابرات، وتولت سابقاً مهامَّ حكومية، كتأمين بنوك وجامعات، وحتى محطات المترو، بالإضافة إلى توليها مهام تأمين مقار حملة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فجأة أصبحت تملك طموحاً إعلامياً وأموالاً بلا حساب، لتشتري شبكة قنوات كانت قبل سنوات تتقدم المشاهدة، بحسب تقرير لـ "إبسوس".
السؤال الأبرز هنا: لماذا مالك قنوات الحياة هو رئيس حزب الوفد، السيد البدوي، الذي أيد الرئيس السيسي علناً في كل المراحل، والذي ترشح نوابه على قائمة "دعم الدولة"؟ لماذا إنفاق كل هذه المبالغ الضخمة على قناة مؤيدة بطبيعتها؟ يتكرّر السؤال بمشاهد عديدة. لماذا اشترى رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، مالك "اليوم السابع"، قناة "أون تي في" التي لا يمكن وصفها بالمعارضة، حتى لو غرّدت بعض أصواتها خارج السرب؟ ولماذا اشترى صحفاً ومواقع إلكترونية غير معارضة، مثل دوت مصر والعين؟ ولماذا يخرج العميد محمد سمير من منصبه المهيب متحدثا باسم القوات المسلحة المصرية، ليذهب إلى قناة العاصمة ليديرها بنفسه؟ ألا يوجد من أبناء المهنة المؤيدين تماماً للسيسي من يمكنه فعل ذلك؟ وبالمثل، لماذا تم حجب مواقع غير معارضة، كالبورصة وديلي نيوز إيجبت؟ نشر السيسي بنفسه مقالين بالإنكليزية على الأخير، ليخاطب المستثمرين، وكان هذا مثار احتفاء من إدارة الموقع، لكنه حُجب أيضاً!
الإجابة هي عبارة الرئيس السيسي الشهيرة "عبد الناصر كان محظوظاً بإعلامه". المطلوب ليس نموذج حسني مبارك الذي يكتفي بضغوطه على نسبةٍ حاكمة من الإعلام، ويسمح بطيفٍ من التنوع تحت سقف مرتفع نسبياً ليحتفظ بالمصداقية، بل المطلوب اليوم هو نموذج عبد الناصر، أقل عدد ممكن من وسائل الإعلام، تحكم بشكل مركزي بكل معلومة. رغبة مفرطة في "الاصطفاف" على النمط العسكري. لا يمكن حتى أن تؤيدوا بطريقتكم، يجب أن تؤيدونا بطريقتنا.
جانب رئيسي آخر من السبب هو الخوف من لحظة تحول مفاجئة. علمتنا دروس "25 يناير" أن وسائل الإعلام الخاصة المؤيدة لمبارك حوّلت دفتها لصالح الثورة المنتصرة مبكراً جداً عن الإعلام الحكومي. هناك حدٌّ أدنى من الحساسية الشعبية، وهناك حدٌّ أدنى من الحفاظ على مصالح رجال الأعمال بشكل منفصل عن النظام. وتزيد أهمية الأمر ذلك مع تصاعد الحديث عن احتمالات عودة الفريق أحمد شفيق ليرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقبلة من القاهرة، بما يعنيه ذلك من تكتل جانب كبير من شبكات مبارك القديمة لصالحه.
كانت مصر دائما تتمتع بهامش الحرية الأوسع في العالم العربي إلى حد مبهر لأي زائر عربي للقاهرة، حرية تسمح أن يُنشر مقال إبراهيم عيسى عن مبارك "إنك ميت" فلا تهتز الأرض. وتسمح أن ينشر عبد الحليم قنديل "إني أتقيؤك" ضد مبارك. وتسمح أن يرسم عمرو سليم مبارك من الخلف ليظهر "قفاه"، أو يرسم صورة البقرة الضاحكة اللقب الشعبي لمبارك عند المصريين.
وعلى الرغم من أنه ما تزال هنك بقايا في الهامش، على الرغم من كل شيء، وما زالت تُنشر مقالات معارضة عالية السقف، وما زال ممكنا ظهور ضيف معارض من حين آخر، إلا أنه من الواضح تماماً نجاح الدولة في مسيرة الزحف المتواصلة لتضييق كل مساحة، وخفض كل سقف. ونستطيع اليوم عدّ أسماء المذيعين أو الكتاب الذين اختفوا تماما. ولكن، على الجانب الآخر، لن يصل هذا النجاح إلى الكمال المطلوب، من ناحية أنه من المكرّر أن نتحدث عن لا محدودية الوسائط الإعلامية اليوم، حيث الكاميرات ومواقع التواصل في كل يد. ومن ناحية أخرى، لا إعلام يغير الواقع الشخصي. حين يمد المواطن يده إلى جيبه، ليجد كل جنيه هبط إلى نصف قيمته لا يمكن أن يقنعه الإعلام بغير ذلك مهما قيل.
كان جمال عبد الناصر محظوظاً بإعلامه، لكنه كان أيضاً محظوظاً بعصره المختلف، حيث لا إنترنت ولا فضائيات، وحيث كان في وسعه أن يقدّم مُنجزاً اجتماعياً حقيقياً يشعر به الناس في صفقةٍ يستبدلها بالديمقراطية. محاولة إعادة إنتاج الماضي بحذافيره لا تنتج إلا تشوّهات.
الشركة التي يعمل فيها قياديون سابقون من أجهزة الأمن والمخابرات، وتولت سابقاً مهامَّ حكومية، كتأمين بنوك وجامعات، وحتى محطات المترو، بالإضافة إلى توليها مهام تأمين مقار حملة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فجأة أصبحت تملك طموحاً إعلامياً وأموالاً بلا حساب، لتشتري شبكة قنوات كانت قبل سنوات تتقدم المشاهدة، بحسب تقرير لـ "إبسوس".
السؤال الأبرز هنا: لماذا مالك قنوات الحياة هو رئيس حزب الوفد، السيد البدوي، الذي أيد الرئيس السيسي علناً في كل المراحل، والذي ترشح نوابه على قائمة "دعم الدولة"؟ لماذا إنفاق كل هذه المبالغ الضخمة على قناة مؤيدة بطبيعتها؟ يتكرّر السؤال بمشاهد عديدة. لماذا اشترى رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، مالك "اليوم السابع"، قناة "أون تي في" التي لا يمكن وصفها بالمعارضة، حتى لو غرّدت بعض أصواتها خارج السرب؟ ولماذا اشترى صحفاً ومواقع إلكترونية غير معارضة، مثل دوت مصر والعين؟ ولماذا يخرج العميد محمد سمير من منصبه المهيب متحدثا باسم القوات المسلحة المصرية، ليذهب إلى قناة العاصمة ليديرها بنفسه؟ ألا يوجد من أبناء المهنة المؤيدين تماماً للسيسي من يمكنه فعل ذلك؟ وبالمثل، لماذا تم حجب مواقع غير معارضة، كالبورصة وديلي نيوز إيجبت؟ نشر السيسي بنفسه مقالين بالإنكليزية على الأخير، ليخاطب المستثمرين، وكان هذا مثار احتفاء من إدارة الموقع، لكنه حُجب أيضاً!
الإجابة هي عبارة الرئيس السيسي الشهيرة "عبد الناصر كان محظوظاً بإعلامه". المطلوب ليس نموذج حسني مبارك الذي يكتفي بضغوطه على نسبةٍ حاكمة من الإعلام، ويسمح بطيفٍ من التنوع تحت سقف مرتفع نسبياً ليحتفظ بالمصداقية، بل المطلوب اليوم هو نموذج عبد الناصر، أقل عدد ممكن من وسائل الإعلام، تحكم بشكل مركزي بكل معلومة. رغبة مفرطة في "الاصطفاف" على النمط العسكري. لا يمكن حتى أن تؤيدوا بطريقتكم، يجب أن تؤيدونا بطريقتنا.
جانب رئيسي آخر من السبب هو الخوف من لحظة تحول مفاجئة. علمتنا دروس "25 يناير" أن وسائل الإعلام الخاصة المؤيدة لمبارك حوّلت دفتها لصالح الثورة المنتصرة مبكراً جداً عن الإعلام الحكومي. هناك حدٌّ أدنى من الحساسية الشعبية، وهناك حدٌّ أدنى من الحفاظ على مصالح رجال الأعمال بشكل منفصل عن النظام. وتزيد أهمية الأمر ذلك مع تصاعد الحديث عن احتمالات عودة الفريق أحمد شفيق ليرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقبلة من القاهرة، بما يعنيه ذلك من تكتل جانب كبير من شبكات مبارك القديمة لصالحه.
كانت مصر دائما تتمتع بهامش الحرية الأوسع في العالم العربي إلى حد مبهر لأي زائر عربي للقاهرة، حرية تسمح أن يُنشر مقال إبراهيم عيسى عن مبارك "إنك ميت" فلا تهتز الأرض. وتسمح أن ينشر عبد الحليم قنديل "إني أتقيؤك" ضد مبارك. وتسمح أن يرسم عمرو سليم مبارك من الخلف ليظهر "قفاه"، أو يرسم صورة البقرة الضاحكة اللقب الشعبي لمبارك عند المصريين.
وعلى الرغم من أنه ما تزال هنك بقايا في الهامش، على الرغم من كل شيء، وما زالت تُنشر مقالات معارضة عالية السقف، وما زال ممكنا ظهور ضيف معارض من حين آخر، إلا أنه من الواضح تماماً نجاح الدولة في مسيرة الزحف المتواصلة لتضييق كل مساحة، وخفض كل سقف. ونستطيع اليوم عدّ أسماء المذيعين أو الكتاب الذين اختفوا تماما. ولكن، على الجانب الآخر، لن يصل هذا النجاح إلى الكمال المطلوب، من ناحية أنه من المكرّر أن نتحدث عن لا محدودية الوسائط الإعلامية اليوم، حيث الكاميرات ومواقع التواصل في كل يد. ومن ناحية أخرى، لا إعلام يغير الواقع الشخصي. حين يمد المواطن يده إلى جيبه، ليجد كل جنيه هبط إلى نصف قيمته لا يمكن أن يقنعه الإعلام بغير ذلك مهما قيل.
كان جمال عبد الناصر محظوظاً بإعلامه، لكنه كان أيضاً محظوظاً بعصره المختلف، حيث لا إنترنت ولا فضائيات، وحيث كان في وسعه أن يقدّم مُنجزاً اجتماعياً حقيقياً يشعر به الناس في صفقةٍ يستبدلها بالديمقراطية. محاولة إعادة إنتاج الماضي بحذافيره لا تنتج إلا تشوّهات.