"كان يا ما كان في سالف العصر والزمان، كان هناك أقوام سكنوا جنوب العراق قبل آلاف السنين، بنوا حضارات قديمة بادت في عهود غابرة، فتركوا خلفهم كنوزهم وقبورهم التي سكنها الجن من بعدهم. وبسبب ثقل وزن العفاريت خسفت الأرض وغلبها النبع والمطر، فكانت الأهوار الجميلة فيها رائحة الأولين والأخيرين وخير إبراهيم وإسماعيل". بهذه الكلمات، ينطلق الحاج شلتاغ مساري في سرد قصص وحكايا تاريخ مناطق الأهوار العراقية التي بقيت لعقود طويلة منبعاً خصباً للأساطير والروايات الخرافية.
وتتميّز بلاد الرافدين بأهوارها عن دول المنطقة الباقية. والأهوار (مفردها هور)، هي مساحات مائية ممتدة تصل الواحدة منها إلى 40 كيلومتراً مربعاً أما عمقها فيتراوح ما بين 6 و10 أمتار. وهي تمتاز بتنوعها البيئي النباتي والحيواني، إذ تختلف أنواع الأسماك فيها وكذلك الحيوانات البريّة على أطرافها. من جهة أخرى، ينبت فيها القصب، وهي تنتشر في مدن العمارة والناصرية وميسان خصوصاً وبالقرب من الحدود مع إيران جنوب البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن مياه الأهوار هي من المياه الجوفية ومن منابع تتدفق باستمرار بالإضافة إلى مياه الأمطار. ويُعتقد أن التنوع البيئي والإحيائي فيها ناتج من تنوّع مصادر مياهها وتدخّل الإنسان فيه.
وتبلغ مجمل مساحة الأهوار 88 ألف كيلومتر مربع، وكان أكثر من نصف مليون نسمة يقطن حولها حتى عام 1987. حينها، أمر الرئيس السابق صدام حسين بتجفيف الأهوار وحرق النباتات فيها، إذ كان الجنود الذين يفرّون من الحرب مع إيران يعبرونها وكذلك عناصر المعارضة المسلحة الذين كانوا يتسللون من إيران إلى العراق بواسطة قوارب صغيرة.
بعد احتلال البلاد في عام 2003، أمر الحاكم الأميركي بول بريمر بإعادة إحياء الأهوار. ففتحت قنوات الفرات إليها وكذلك الينابيع المغلقة، ونمت النباتات من جديد وعادت الحيوانات إلى جوانبها وكذلك الكائنات البحرية التي لا تبدأ مع الأسماك ولا تنتهي مع السلاحف والزواحف البرمائية.
ويخبر الحاج شلتاغ أن "جداتنا كنّ يروين لنا كل ليلة حكاية من حكايات الجنّ والمخلوقات العجيبة التي تسكن الأهوار. وكنا نتشوّق لسماعها، في حين كنا نشعر بالرعب. وإذا راح أحدنا يبكي في عتمة الليل في حين يعلو نقيق الضفادع ونعيق دجاج الماء، تهددنا الجدّة بالطنطل. حينها، نخلد إلى النوم خوفاً من هذا الكائن العجيب الذي كانت تصفه جدتي بأنه طويل القامة وقوي البنية، ينفخ ناراً من فمه الكبير فيحرق خصمه".
بلهجته الجنوبية البسيطة يتحدث الحاج شلتاغ وهو يستجمع ما تخزّنه ذاكرته العتيقة عن "العفاريت وكنوز الذهب في تلك الأماكن التي كانت في يوم بحراً من المياه".
اقرأ أيضاً:العراقيّون يتمسّكون بالمحلبي
من جهته، يشير الخبير الجيولوجي الدكتور عبد الرحمن العبيدي إلى أن "الأهوار تشكلت في حقبة قديمة شهدت ازدهار نهرَي دجلة والفرات وروافدهما بشكل خيالي في عام 629 ميلادي، لم يشهد التاريخ القديم مثيلاً له. حينها، دُمّرت سدود كثيرة مهملة نتيجة ضعف الدولة الساسانية في ذلك العصر، فغيّر الرافدان مجراهما في عدد من مناطق الوسط والجنوب لتكتسح مياههما مناطق أقصى الجنوب بشكل مهول وتمتد لتشكّل بحراً عظيماً في أقصى جنوب العراق في المناطق المنخفضة ذات الطبيعة الطينيّة. وفي ما بعد، عُرفت تلك المناطق التي غمرتها المياه بالبطائح، لتُسمّى لاحقاً بالأهوار. وقد قُدّرت مساحتها بنحو 20 ألف كيلومتر مربّع".
يضيف العبيدي أن "مئات الحكايات الأسطورية انتشرت حول الجنّ الذي يعرف في الجنوب بـ "الطنطل" أي العفريت. وقد تناقل الناس لآلاف السنين وحتى اليوم قصصاً تثير الدهشة حول كنوز وزوارق من ذهب وأفاع عملاقة وموتى يصرخون في قبورهم. وهذه الحكايات ما هي سوى امتداد لمعتقدات قديمة حول آلهة أنصافها بشريّة في حضارات غارقة في القدم غمرتها مياه تلك الأهوار في وقت لاحق".
وسكان الأهوار الذين كانوا يعتاشون على صيد الأسماك وتربية الجواميس، يتناقلون هذه الحكايات الأسطورية في ما بينهم ويبحثون عن كنوز ضائعة في تلك الأهوار. سباهي كاظم مثلاً، كان يكدّ في دفع مركبه الصغير الذي يسمّيه سكان الأهوار "المشحوف" في مياه الهور، باحثاً عن صيد ثمين بين القصب والبردى المتشابكة. وهو لم يكن يرجع خالي الوفاض، بل حاملاً السمك أو دجاج الماء أو بعض الطيور الأخرى. ويروي أن "رحلتي بالمشحوف كانت أشبه برحلة إلى جنة عدن. وكنت أقصد بعض الجزر التي يغطيها البردى، أما أجمل أوقاتنا فكانت في رحلات الصيد الليلية، عندما كنا نضع سراجاً صغيراً في مقدمة القارب ونوغل في التقدم". ويحكي عن مغامراته ومشاهداته وعن "منطقة تسمى حفيظ تشبه الجزيرة الصغيرة وسط المياه يسكنها الجن ولا يستطيع أحد الوصول إليها. من يبلغها يمت. وغالباً ما كنا نشاهد من بعيد أشباحاً في تلك المنطقة".
أما الحاج أبو شغاتي، فيلفت إلى أن "الأهوار مسكونة من قبل الجن لاحتوائها على كنوز قديمة. نحن شاهدنا أشباحاً هناك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكذلك أجدادنا الذين كانوا يسمعون أصوات صراخ في الليل تخرج من منطقة أم الحناء، وهي مقبرة قديمة جداً وسط الهور".
ويؤكّد المؤرخ طاهر الحياني "وجود كنوز وآثار قديمة جداً تعود إلى ما قبل خمسة آلاف عام في الأهوار، ومنها منطقة يشن". يضيف أن "أكبر الأهوار تنتشر في محافظات ميسان وذي قار والبصرة، ومنها هور الحويزة وهور الحمّار. لكن اليوم، لم يتبقَ من الأهوار إلا 4 % مما كانت عليك في السابق".
اقرأ أيضاً: تعاليل رمضان ترفّه عن العراقيّين