"طناجر" برشلونة

11 نوفمبر 2014
برشلونة / Getty
+ الخط -
بدأت القصة منذ ليلة الأربعاء الماضي، واستمرّت حتى ليلة السبت، بعدما اضطر الرئيس الكتالوني، آرتور ماس، إلى إلغاء استفتاء الاستقلال، واستبداله بآخر "رمزي" جرى صبيحة أول من أمس الأحد. فما كانت الساعة تصل إلى العاشرة، حتى سُمع قرع الطناجر في كل مناطق إقليم كتالونيا (شمال شرق إسبانيا) وبالأخصّ في مدينة برشلونة عاصمة الإقليم. 
شرفات المدينة، التي عادة ما تكون فارغة طوال أيام السنة (إذ ليس لديهم وقت للجلوس في الشرفات)، صارت تمتلئ بربّات البيوت وأفراد العائلة، حاملين طناجر المطبخ بيد، وباليد الأخرى الملاعق الكبيرة، ليشتعل القرعُ بعد ذلك ولا يتوقف إلا في العاشرة والنصف.

ظاهرة لم يألفها سكان برشلونة من السياح وغير المقيمين. لكنها تكرّست هذه السنة، كنوع من الاحتجاج "الغاضب" على قرار المحكمة الدستورية في مدريد، بسحب الشرعية عن الاستفتاء، وبالتالي شعور الكتالان بالإحباط إضافة إلى القلق والغموض حيال ما ينتظرهم في المستقبل.

"العربي الجديد" استطلعت آراء عدد من الأهالي في منطقتَي "الغوتيكو" و"البورن"، وسألتهم عن موضوع الاستقلال، فكان هناك إجماع لا ينقصه الانفعال وسط فئة الشباب. يقول جوزيب (طالب في جامعة فابرا): "إنه حلم أسلافنا البعيدين، وإن لم نستطع تحقيقه اليوم، فسنواصل جهدنا لتحقيقه في أسرع وقت". أما زميلته لاورا فتصرخ: "لقد وأدوا حلمنا بكتالونيا مستقلة كنا سنعمل لتكون سويسرا ثانية في أوروبا".

يندلع نقاش صاخب، ويسخر منها رجل يقف عن كثب: "سويسرا ثانية؟ وكيف ستكون وهي فاقدة الاعتراف من العالم كلّه؟ استيقظي يا سنيورة!". يمضي الرجل، وتقول لاورا إنه إسباني.
نسأل مانويل، المَلَقي الأصل والمقيم هنا منذ عشرين سنة، فيبتسم ويؤكّد: "استقلالهم مستحيل، على الأقل في المستقبل القريب والمتوسط. وفي حال حصولهم على أغلبية في الاستفتاء الرمزي المزمع، سيحاولون دفع مدريد إلى التفاوض حول قدر أوسع من الحريات السياسية، وإرجاع جزء أكبر من أموالهم إليهم" (يقصد عائدات الضرائب الكبيرة التي تجنيها مدريد من كتالونيا، ولا تُعيد إليها غير جزء يسير).

وفي حيّ البورن القديم، نقابل الشاب جوردي، الغاضب على الرئيس آرتور ماس بسبب عجزه عن كسب شرعية الاستفتاء من حكومة راخوي: "هذه فرصة تاريخية ضيّعها ماس، وربما ستمرّ عقود طويلة من الزمن حتى تتاح فرصة أخرى مؤاتية".

نسأله كيف؟ فيردّ: "ألم تشاهدوا التظاهرات المليونية المؤيدة لفكرة الاستقلال؟ لم يكن هناك إجماع قوي، كما هو عليه اليوم. أنا أظن أنّ استقلالنا لا يُعطى وإنما يؤخذ. طبعاً سندفع الثمن، لكن لا استقلال بلا ثمن".

حول مزيد من الآراء، نذهب لمجموعة كهول في حديقة سيوتاديّا، فتقول لويسا: "سنقبل في هذه المرحلة بتسهيلات اقتصادية من مدريد، ترفع عنا شبح أزمة الاقتصاد والبطالة، بانتظار أن يتغيّر الحال، وتأتي حكومة مركزية يسارية أو معتدلة، تؤمن بحق شعبنا في تقرير مصيره، بصورة ديمقراطية. سواء أكان هذا ضمن نظام فيدرالي أم من خلال الاستقلال الناجز".

أما المسنّون، ممن عاشوا تجربة الديكتاتور فرانكو، فبدوا متوجسين رغم تأييدهم الأكيد لما يعتبرونه "حلماً لم يتحقق منذ 300 سنة بالضبط"، في إشارة إلى هزيمتهم على يد الملك الإسباني فيليب الخامس عام 1714 في حرب الخلافة الإسبانية، وانضمامهم قسراً إلى مملكته، بعد أن كانوا إمارة مستقلة تحكم نفسها بنفسها.

حتى ليلة أمس كان جميع الكتلان متخوّفين من صدور قرار من المحكمة العليا بمنع إجراء حتى هذا الاستفتاء عبر إرسال قوات الشرطة إلى مراكز التصويت وسحب الصناديق بالقوة، الأمر الذي كان سيتمخض عنه اندلاع مظاهرات وربما مواجهات في الشارع. ولكن أخيراً، سرت الأمور على ما يرام وباكراً منذ الصباح الممطر شهدت المراكز إقبالاً كبيراً من الأهالي. بالرغم من هذا، لم يكن خافياً على الوجوه الشعور بالخذلان وربما لا جدوى التصويت.

جدير بالذكر أن إقليم كتالونيا له لغة وثقافة وهوية خاصة به ضاربة الجذور. وهو يُشكّل أقل من خمسة في المائة من مساحة إسبانيا، أما تعداد سكانه فيقترب من ثمانية ملايين نسمة، ويعتبر الإقليم السادس من حيث المساحة في المملكة. وهو ينقسم إلى أربع مقاطعات: جيرونا وترّاغونا وييدا وبرشلونة، والأخيرة يحلم بها الكتالانيون عاصمة للدولة المستقلة العتيدة، وهي حالياً قلب كتالونيا النابض، في المجالات كافة.

أما اقتصاد الإقليم فوصل حسب التقديرات إلى أكثر من 22 في المائة من المجموع الكلّي لاقتصاد إسبانيا. وهو بذلك يكون الإقليم الأكثر ازدهاراً في عموم مملكة الدون كيخوته.
المساهمون