قبل شهر، أو أقلّ، قال شاب عرّف عن نفسه باسم "أحمد" إنه لم يسبق له أن زار منطقة وسط بيروت، على الرغم من أنه تجاوز الخامسة والعشرين من العمر. فنزل إليها للمرة الأولى للمشاركة في "حراك بيروت" الذي زنّرته القوى الأمنية بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع. منذ ذلك الحين لم يفارق أحمد الحراك ونشاطاته. أحبّ بيروت الجديدة، "بيروت الأخرى"، كما يقول، التي لا يعرفها سوى بالاسم. فكافأته العاصمة، يوم السبت، بسوق شعبي يشبهه ويشبه أهله وجيرانه الذين تمكّن من إقناع بعضهم بمرافقته من عرمون (من الضواحي الجنوبية لبيروت)، إلى هذا المكان الجديد.
استكشف أحمد ومن معه بيروت الجديدة، بينما عاد المواطنون العاديون إلى منطقة "وسط بيروت" التي حوّلها تحالف رجال الأعمال والسلطة السياسية حكراً على مجتمعهم المخمليّ والماركات التجارية العالمية. وكانت هذه العودة من خلال "سوق أبو رخوصة" الذي تبع أياماً وأسابيع من الاعتصام والقمع الأمني للناشطين في حراك بيروت. استفزّ هذا التحالف مواطني الحراك بلسان رئيس جمعية تجار بيروت، نقولا شماس، الذي قال إنّ الهيئات الاقتصادية (وبالتالي الهيئات السياسية وزعمائها وأحزابها) "لن تسمح بتحويل وسط العاصمة إلى سوق أبو رخوصة". ومن هنا جاءت التسمية كردة فعل على إهانة الناس وعلى معايرتهم بفقرهم والأسعار المتدنية للبضائع التي يشترونها أو يلبسونها أو حتى يتداولون بها. وهي إهانة بالتالي إلى شعاراتهم ومطالبهم وحقوقهم التي يرفعونها بوجه التحالف السياسي ـ التجاري.
تريد السلطة، بشقيّها المالي والسياسي، وسط المدينة تجمّعاً للفنادق والمطاعم والمحال الفخمة، بحسب ما قال شمّاس. إلا أنّ بسطات المأكولات والمشروبات، وصناديق الكتب والمجلّات والأسطوانات، حضرت إلى المكان الذي أصبح معرضاً للأعمال الحرفية والمنزلية، كلّها بأسعار "أبو رخوصة". في هذا السوق الجديد، عرض الناس ثياباً مستعملة للبيع، أقمشتها مرخية وغير مشدودة، باعوا واشتروا وأكلوا الفول والعرانيس والترمس. حضرت مناقل الفحم لتسخين الكعك الرخيص بالجبن العكاوي الذي يباع عادة في ملاعب كرة القدم أو في الأسواق الشعبية على أطراف المدينة. وكل ذلك بأسعار رخيصة، لا بل رمزية، راوحت بين ألف وخمسة آلاف ليرة لبنانية (بين نصف دولار وثلاثة دولارات أميركية). حتى أنّ بعض التجار الجدد قدّموا منتوجاتهم مجاناً "نكاية بنقولا شماس"، بحسب ما قالوا. زيّن الناس وجوههم برسومات الأمل والفرح، رقصوا وغنوا ودبكوا في ساحتهم العامة وفي سوقهم الشعبي. كل هذا حصل على تخوم الأسلاك الشائكة التي تفصل ساحة رياض الصلح عن مقرّي البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء وسائر الأسواق الفخمة المستحدثة في وسط بيروت التي تلبّي رغبات وحاجات جزء صغير من أبناء المدينة والسياح.
عاد وسط بيروت، لساعات، إلى تسميته الأصلية: البلد. محا عن نفسه الأسماء الأخرى التي أعطيت له، كـ"وسط بيروت"، والأدق "وسط بيروت التجاري"، أو "منطقة سوليدير"، وهي الشركة الخاصة التي أعادت إعمار بيروت وحصرت الحضور فيها بـ"التجارة الثقيلة" التي لا دور للناس العاديين وأصحاب الأرزاق الصغيرة فيها سوى التفرّج أو الاستهلاك فقط. "البلد"، أي أنه يتّسع للجميع، لباعة الكعك والفول ولصانعي الحلوى والحليّ، للرسامين والحرفيين. أو حيث يمكن لعائلة أن تنزّه فيه أطفالها بلا كلفة، ومساحة لنسج الصداقات أو توطيدها بعيداً عن مقاعد المقاهي أو الأماكن الخاصة. أو حيث يمكن لأي كان أن يمشي دون أن يسأل، فيفلت نفسه بين جموع الناس ويضيع بينها. ساحة للتنفّس والتنفيس، شعور بالانتماء إلى مكان أو أرض ما.
أعاد ناشطو "حراك بيروت" الحياة إلى هذه المنطقة من بيروت التي سُلبت منهم ومن أهلها الأصليين الذين نزلوا أيضاً إلى "أبو رخوصة" للتأكيد على أنّ شركة سوليدير سرقت منهم محالهم التجارية وجيّرتها لغيرهم بعد الحرب ومرحلة إعادة الإعمار. عمر لبابيدي، أحد هؤلاء، عمره 82 عاماً، يقول إنه تربّى في هذه المنطقة وكان له فيها دكاكين وضعت الشركة يدها عليها وهجّرته منها. بالطبع لم يعد يعرف المنطقة اليوم، هو واحد من آلاف التجار الأصليين في "البلد" الذين يعيشون هذه المعاناة. يسأل عن سوق مار جرجس وسوق الفشخة وأسواق لا تعدّ ولا تحصى بأسماء مهن وسلع وصنائع وعائلات. كلّها باتت من الذاكرة وحاولت السلطة الجديدة لـ"البلد" المحافظة عليها، فأطلقتها على ممرات من السوق المخملي المستحدث في المنطقة وأحاطتها بالجدران السميكة التي تشبه المجمعات التجارية المربحة. ومع الأزمة السياسية الداخلية والإقليمية، ومعها تراجع الأوضاع المالية والأمنية، خلت السوق الجديدة من الزبائن، وتحوّلت المنطقة إلى مكان مقفر وميت فيه الكثير من الأضواء لكن بلا نور ويزوره كثيرون لكن بلا حياة.
اكتشف أحمد بيروت الجديدة، وكذلك فعل أبناء الجيل الجديد. القادر منهم على القراءة والمتابعة عرف بيروت القديمة من سطور كتب وروايات سمير قصير والياس خوري وربيع جابر، أو حتى توفيق يوسف عواد. أما من لا يمتلك القدرة على ذلك، فيمكن للبابيدي أن يتكفّل بتصوير بيروت في مخيّلتهم. انتهت بيروت القديمة وانتهى كل ما كان فيها وشيّدت بيروت أخرى عليها خالية من الناس والبسطات ودور السينما والبارات وأكشاك الأكل والشرب. كل هذا بات من الذاكرة التي لا بد من متابعة التمرين لتنشيطها بهدف حفظها وتأريخها.
أعاد عشرات الناشطين البريق إلى "وسط بيروت"، الذي لم يعد أبداً وسطها منذ أكثر من عقدين. جمعوا الآلاف في هذا الوسط وقرروا مواجهة السلطة بكل ما يتاح لهم. بشعاراتهم السياسية والمطلبية المتنوّعة، بصدورهم التي صدّت ضرب هراوات العناصر الأمنية، بالأغاني والأناشيد، وبالسوق الشعبي الذي أزهر فرحاً في قلوب الناس في قلب العاصمة. فنجح حراك بيروت في تحدّي تحالف رجال الأعمال والسياسة في عقر داره. قبل شهر، كان الواقع المسيطر يقول إنّ بيروت قد ماتت، لكن حراكاً جاءها ليؤكد أنّه ما زال فيها شارع ونبض، حيث يمكن لأحمد ومَن مثله أن يعيد استكشاف المدينة والحياة بجوانبها كافة.
استكشف أحمد ومن معه بيروت الجديدة، بينما عاد المواطنون العاديون إلى منطقة "وسط بيروت" التي حوّلها تحالف رجال الأعمال والسلطة السياسية حكراً على مجتمعهم المخمليّ والماركات التجارية العالمية. وكانت هذه العودة من خلال "سوق أبو رخوصة" الذي تبع أياماً وأسابيع من الاعتصام والقمع الأمني للناشطين في حراك بيروت. استفزّ هذا التحالف مواطني الحراك بلسان رئيس جمعية تجار بيروت، نقولا شماس، الذي قال إنّ الهيئات الاقتصادية (وبالتالي الهيئات السياسية وزعمائها وأحزابها) "لن تسمح بتحويل وسط العاصمة إلى سوق أبو رخوصة". ومن هنا جاءت التسمية كردة فعل على إهانة الناس وعلى معايرتهم بفقرهم والأسعار المتدنية للبضائع التي يشترونها أو يلبسونها أو حتى يتداولون بها. وهي إهانة بالتالي إلى شعاراتهم ومطالبهم وحقوقهم التي يرفعونها بوجه التحالف السياسي ـ التجاري.
تريد السلطة، بشقيّها المالي والسياسي، وسط المدينة تجمّعاً للفنادق والمطاعم والمحال الفخمة، بحسب ما قال شمّاس. إلا أنّ بسطات المأكولات والمشروبات، وصناديق الكتب والمجلّات والأسطوانات، حضرت إلى المكان الذي أصبح معرضاً للأعمال الحرفية والمنزلية، كلّها بأسعار "أبو رخوصة". في هذا السوق الجديد، عرض الناس ثياباً مستعملة للبيع، أقمشتها مرخية وغير مشدودة، باعوا واشتروا وأكلوا الفول والعرانيس والترمس. حضرت مناقل الفحم لتسخين الكعك الرخيص بالجبن العكاوي الذي يباع عادة في ملاعب كرة القدم أو في الأسواق الشعبية على أطراف المدينة. وكل ذلك بأسعار رخيصة، لا بل رمزية، راوحت بين ألف وخمسة آلاف ليرة لبنانية (بين نصف دولار وثلاثة دولارات أميركية). حتى أنّ بعض التجار الجدد قدّموا منتوجاتهم مجاناً "نكاية بنقولا شماس"، بحسب ما قالوا. زيّن الناس وجوههم برسومات الأمل والفرح، رقصوا وغنوا ودبكوا في ساحتهم العامة وفي سوقهم الشعبي. كل هذا حصل على تخوم الأسلاك الشائكة التي تفصل ساحة رياض الصلح عن مقرّي البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء وسائر الأسواق الفخمة المستحدثة في وسط بيروت التي تلبّي رغبات وحاجات جزء صغير من أبناء المدينة والسياح.
عاد وسط بيروت، لساعات، إلى تسميته الأصلية: البلد. محا عن نفسه الأسماء الأخرى التي أعطيت له، كـ"وسط بيروت"، والأدق "وسط بيروت التجاري"، أو "منطقة سوليدير"، وهي الشركة الخاصة التي أعادت إعمار بيروت وحصرت الحضور فيها بـ"التجارة الثقيلة" التي لا دور للناس العاديين وأصحاب الأرزاق الصغيرة فيها سوى التفرّج أو الاستهلاك فقط. "البلد"، أي أنه يتّسع للجميع، لباعة الكعك والفول ولصانعي الحلوى والحليّ، للرسامين والحرفيين. أو حيث يمكن لعائلة أن تنزّه فيه أطفالها بلا كلفة، ومساحة لنسج الصداقات أو توطيدها بعيداً عن مقاعد المقاهي أو الأماكن الخاصة. أو حيث يمكن لأي كان أن يمشي دون أن يسأل، فيفلت نفسه بين جموع الناس ويضيع بينها. ساحة للتنفّس والتنفيس، شعور بالانتماء إلى مكان أو أرض ما.
أعاد ناشطو "حراك بيروت" الحياة إلى هذه المنطقة من بيروت التي سُلبت منهم ومن أهلها الأصليين الذين نزلوا أيضاً إلى "أبو رخوصة" للتأكيد على أنّ شركة سوليدير سرقت منهم محالهم التجارية وجيّرتها لغيرهم بعد الحرب ومرحلة إعادة الإعمار. عمر لبابيدي، أحد هؤلاء، عمره 82 عاماً، يقول إنه تربّى في هذه المنطقة وكان له فيها دكاكين وضعت الشركة يدها عليها وهجّرته منها. بالطبع لم يعد يعرف المنطقة اليوم، هو واحد من آلاف التجار الأصليين في "البلد" الذين يعيشون هذه المعاناة. يسأل عن سوق مار جرجس وسوق الفشخة وأسواق لا تعدّ ولا تحصى بأسماء مهن وسلع وصنائع وعائلات. كلّها باتت من الذاكرة وحاولت السلطة الجديدة لـ"البلد" المحافظة عليها، فأطلقتها على ممرات من السوق المخملي المستحدث في المنطقة وأحاطتها بالجدران السميكة التي تشبه المجمعات التجارية المربحة. ومع الأزمة السياسية الداخلية والإقليمية، ومعها تراجع الأوضاع المالية والأمنية، خلت السوق الجديدة من الزبائن، وتحوّلت المنطقة إلى مكان مقفر وميت فيه الكثير من الأضواء لكن بلا نور ويزوره كثيرون لكن بلا حياة.
اكتشف أحمد بيروت الجديدة، وكذلك فعل أبناء الجيل الجديد. القادر منهم على القراءة والمتابعة عرف بيروت القديمة من سطور كتب وروايات سمير قصير والياس خوري وربيع جابر، أو حتى توفيق يوسف عواد. أما من لا يمتلك القدرة على ذلك، فيمكن للبابيدي أن يتكفّل بتصوير بيروت في مخيّلتهم. انتهت بيروت القديمة وانتهى كل ما كان فيها وشيّدت بيروت أخرى عليها خالية من الناس والبسطات ودور السينما والبارات وأكشاك الأكل والشرب. كل هذا بات من الذاكرة التي لا بد من متابعة التمرين لتنشيطها بهدف حفظها وتأريخها.
أعاد عشرات الناشطين البريق إلى "وسط بيروت"، الذي لم يعد أبداً وسطها منذ أكثر من عقدين. جمعوا الآلاف في هذا الوسط وقرروا مواجهة السلطة بكل ما يتاح لهم. بشعاراتهم السياسية والمطلبية المتنوّعة، بصدورهم التي صدّت ضرب هراوات العناصر الأمنية، بالأغاني والأناشيد، وبالسوق الشعبي الذي أزهر فرحاً في قلوب الناس في قلب العاصمة. فنجح حراك بيروت في تحدّي تحالف رجال الأعمال والسياسة في عقر داره. قبل شهر، كان الواقع المسيطر يقول إنّ بيروت قد ماتت، لكن حراكاً جاءها ليؤكد أنّه ما زال فيها شارع ونبض، حيث يمكن لأحمد ومَن مثله أن يعيد استكشاف المدينة والحياة بجوانبها كافة.