"ريتشارد" التونسي: المصفّقون لا يموتون

23 يوليو 2014
مشهد من المسرحية
+ الخط -

سينوغرافيا ما بعد الثورة، وجوه لا تراها، أشكال بعيدة بالكاد تتعرف إليها في ظلمة مقصودة على امتداد كامل العرض. أحداث مسرحية ريتشارد الثالث لجعفر القاسمي جاءت حمالة لأكثر من مفاجأة: أولها أن التونسيين اعتادوا عليه ممثلًا كوميدياً ساخراً في كل أعماله التي يعرفونها في المسرح أو التلفزيون برغم أن قلة تعرف أنه خريج المعهد العالي للفنون الدرامية، غير أن المهم هو ما يتعلق بمضمون وتقنيات العملية المسرحية ذاتها والتي جاءت ملفتة إلى مخرج مهم نكتشفه حديثاً وإلى قدرة واضحة على الإمساك بلعبة الكشف والمواربة التي اعتمدها في ريتشارد الثالث وهي عصية على كثيرين، فما بالك بتجربة محترفة أولى بهذا الحجم.

ريتشارد المسرحية عاد يصفي حساباته معنا، إذ اعتمد المخرج على المكاشفة المباشرة مع الجمهور حين كان يوجه إليه ضوءاً يقصده: "من نفاقكم وطمعكم وخوفكم ولدت". ريتشارد، في ذروة التسلط. وليد مجتمع متفسّخ أتاح له طائعاً أن يسحقه: "سيذعنون من جديد. كانوا يصفقون عندما أقتل ويهللون عندما أسجن". وتتالت المشاهد تحاول أن ترد صدى المرآة.

الآن وقد مرت الصدمة وحان وقت الحساب تجرّد جعفر القاسمي من كل ابتساماته المعروفة، حان وقت الحقيقة.

مشهد المصفقين:

تساءلوا، لمن سنصفّق الآن؟ هكذا مات الملك؟

نعم ومن قبله مات ملوك آخرون

نحن الآن أموات،

بل نحن أحياء نتحرك ونصفّق ونقتل القصر تصفيقاً، المصفّقون لا يموتون،

وإن مات الملك سيأتي من بعده ملك نصفّق له فلكل ملك الحق في التصفيق.

وتستمر مشاهد ريتشارد الثالث متراوحة بين جلد الذات بما ينبغي لها أن تجلد وبما يعن لها أن تعترف، وبين أسئلة المستقبل، المرأة التي حملت من "ربيع" تريده أن ينهض وهو لا يقوى، في حين أن المتربص بها في عنفوان قوته واستطاعته؛ صراع كأننا لمحنا قدرة "ربيع" في نهايته على الوقوف على قدميه، برهة أمل أراد المخرج أن يريحنا بها من قتامة المشهد.

قتامة مقصودة على امتداد العمل وتحكم مذهل في الأضواء يعكس قدرة خريجي معهد الدراما على التعلّم من أجيال تونسية أسست لرؤية جمالية وتناول للركح جعلها تتبوأ هذا المقعد المتقدم عربياً.

لم تكن رموز المخرج مقفلة ومستعصية على متابعيها، كانت إشارات مباشرة تقريباً إلى ما أراده في لعبة المكاشفة والمصارحة التي يبدو وأن وقتها قد حان. غير أنه نبهنا على امتداد مشهد كامل أن الغرض في النهاية ألا يولد ريتشارد جديد، ألا نصنع مرة أخرى ريتشارد جديد.

ويبدو التعاطي مع النصوص الكلاسيكية والاقتباس منها أو إعادة صياغتها وإسقاطها على الواقع مسالة في غاية التعقيد تستوجب من الكاتب الجديد أن يكون ممسكاً بالنص الأصلي وعارفاً ببيئة كاتبه ومتمكناً من مفاتيح التبادل والتفاعل والنجاح في تفادي المنزلقات الكثيرة التي تحف بمثل هذه المغامرات الإبداعية. ولا بد من الإقرار بأن محفوظ غزال كاتب النص نجح إلى حد كبير في صياغة نصه الجديد وذكياً حين ابتدع له عنواناً فرعياً لتفادي "تهمة تشويه نص عظيم لشكسبير".

أقوال أخرى ممكنة في إدارة الممثل، وفي طريقة "لعب" بعض الممثلين، وفي تفاوت مستوياتهم، و لكننا صراحة ذهبنا إلى مسرح الحمامات لنشاهد مرة أخرى جعفر القاسمي وإن كان لامرئياً هذه المرة.

دلالات
المساهمون