بعد احتلال الجيش الأميركي للعراق عام 2003، عادت إلى التداول مجموعة رسائل كتبتها الباحثة والآثارية الإنكليزية غيرترود بيل (1868 – 1926)، ورغم أنها نشرت بعد رحيلها بعام كاشفة عن دورها في رسم الحدود الحالية وترشيحها لعدد من زعماء المنطقة ليحكموا بلدانهم، وحضورها القوي في المملكة العراقية الناشئة ووضع سياساتها، إلى جانب اشتباكها مع المجتمع وتمتين علاقاتها بعدد من رموزه وشخصياته العامة.
"رسائل من بغداد" عنوان الفيلم الوثائقي الذي أنتج العام الماضي، ويعرض اليوم الإثنين في "دائرة السينما والمسرح" في بغداد بالتعاون مع "شبكة النهرين"، وحضور مخرجتي العمل سابين كراينبول وزيفا أولبوم اللتين ستتحدّثان عنه في لقاء مفتوح مع الجمهور، يعقبه إقامة ورشة عمل للمختصّين في صناعة الأفلام.
بالاستناد إلى لقطات أرشيفية لعدد من البلدان العربية قبل مئة عام لم يسبق عرضها من قبل ووثائق بريطانية، يتناول العمل قصة بيل؛ الجاسوسة والدبلوماسية وعالمة الآثار في مرحلة حسّاسة ساهمت خلالها في تشكّل جغرافيا المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسمها بين بريطانيا وفرنسا.
تؤدّي أدوار بطلة الفيلم والشخصيات التي عايشتها مجموعة ممثلين يقدّمون ضمن حواراتهم محطّة غيرترود بيل الأولى بعد تخرّجها من "جامعة أكسفورد" إلى إيران حيث كان عمّها يعمل فيها سفيراً لبلاده، لتصدر بعد كتابها "صور من بلاد فارس" (1892)، تصف فيه مشاهداتها هناك، ثم يصوّر رحلتها إلى فلسطين وسورية في مهمة محدّدة تتعلّق بدراسة أوضاع دولة آل رشيد في شمال الجزيرة من خلال اتصالها مع عدد من القبائل العربية، وإرسال تقييمها الخاص لمستقبل دولتهم.
أتقنت "خاتون بغداد" (اللقب الذي كانت تنادى به بيل أثناء إقامتها في بغداد) العربية والفارسية والألمانية والفرنسية وقليلاً من اللغتين الايطالية والتركية، وسجّلت أغلب معايشتها لأهل المدن التي زارتها وربما يكون كتابها الأبرز "سوريا: الصحراء" (1907) الذي اعتبر مرجعية لدى العديد من الدارسين لتاريخ بلاد الشام.
في نهاية عام 1909، أتت إلى العراق ضمن بعثة آثار لزيارة قصر الأخيضر وبابل وبعض المدن كالنجف وقامت برسم بعض الخرائط عنها، إلى جانب جمعها معلومات عن العشائر التي مرّت بها، ثم أرسلت من قبل المخابرات البريطانية إلى القاهرة حيث التقت هناك بلورانس العرب، ثم عادت إلى البصرة في مهمّة تتصل بترتيبات سايكس بيكو.
في تلك الفترة، يبدو أن مقترحات بيل نالت موافقة حكومة بلادها؛ وأهمها رسم خارطة العراق الحالية التي ضمّت ثلاث ولايات عثمانية؛ بغداد والبصرة والموصل بعد جدل حول وضع الولاية الأخيرة ضمن حدود الدولة الحديثة في أروقة السياسة البريطانية، وترشيحها فيصل بن الحسين ليكون أول ملك يحكمها، ورفضها إقامة دولة مستقلّة للأكراد.
عُيّنت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق سير برسي كوكس، وكانت علاقتها متوترة مع عدد من شخصيات الحركة الوطنية آنذاك، وفق الفيلم الذي يعرض لرسائل متبادلة بينهم وبينها، ومنهم المحامي سليمان فيضي، ممّن كان يدافعون عن حقهم في الاستقلال، لكنها تمتّعت بشعبية عالية حيث خرجت الآلاف في جنازتها، وقد دفنت في بغداد.