شكّل مشهد آلاف الناس الذين اصطفوا في طوابير، بغضّ النظر عن كيفية جمعهم للوصول إلى المركز الانتخابي، كالسفارة السورية في بيروت، للمشاركة في انتخابات الرئاسة السورية، وتصويرهم وهم يهتفون للرئيس السوري بشار الأسد، جلّ ما أرداته الماكينة الدعائية للنظام من عملية الاقتراع في الخارج وليس التعرّف على خيارات الناس بشأن رئيسهم المقبل.
من المشكوك فيه أن تُنقل صناديق الاقتراع إلى سورية لمعرفة محتواها، وإن نُقلت فإنها ستنقل إلى أحد الأفرع الأمنية كنوع من الفضول لعلّ فيها معلومة مفيدة من الناحية الأمنية، فلا أحد يهتم بنتائج التصويت المعروفة والموضوعة مسبقاً.
بهذا المعنى، فإن النظام لا ينشد شرعية دستورية أو سياسية من وراء تنظيمه عملية الانتخابات الرئاسية، لأنه يعرف أن مشروعيته الوحيدة التي يستطيع أن يواجه بها كل التحديات المهددة لوجوده تنبثق بالدرجة الأولى من قوته على الأرض، ومن مدى التزام حلفائه الإقليميين والدوليين بحمايته ومدّه بأسباب الصمود.
وبهذا المعنى أيضاً، لا تشكّل الانتخابات الرئاسية، سواء أُجريت أم أُلغيت، أكثر من ورقة مساومة شكلية، قد تُفيد تكتيكياً، إذا انبعثت مجدداً مفاوضات على غرار جنيف، لسد ثغرة دستورية بأن الرئيس منتخب، ولا يمكن تالياً الولوج من زاوية وجود فراغ دستوري في إطار أي حديث مفترض عن هيئة حاكمة انتقالية. وهي ورقة تصبح بلا قيمة في اللحظة التي تتبدّل فيها موازين القوى على الأرض.
كان يمكن للانتخابات، كإحدى آليات الحكم الديموقراطي، أن تكون بالنسبة للحالة السورية جزءاً من الحل، لو أنها جرت في ظروف أخرى، وفي إطار جدول زمني متفق عليه برعاية دولية. لكن إجراءها بشكل أحادي من جانب النظام، مع تجاهل الواقع السوري، وتجاهل المعارضة، وكأن شيئاً لم يحدث خلال السنوات الثلاث الماضية، يجعل الانتخابات جزءاً من المشكلة.
وبقدر ما تشير الانتخابات إلى انفصال النظام السوري عن الواقع، فإنها تشير إلى سعيه لخلق واقع جديد، ولو بعيون جمهوره ومريديه في الداخل.
ويدرك المجتمع الدولي، الذي رأى أن الانتخابات تعرقل الحل السياسي، أن النظام لم ولن يتعامل جدياً مع أي حل سياسي محتمل للأزمة السورية.
فقد كان خيار النظام منذ البداية رفض التعاطي مع أية حلول وسطية تمهّد الطريق لتصعيد المطالب وصولاً إلى إسقاط النظام، ولذلك لجأ إلى محاولة الحسم الأمني خلال التظاهرات السلمية، ثم الحسم العسكري بعد تسلّح الثورة، ما فاقم الوضع وزاده تعقيداً، ولا سيما مع دخول أطراف وقوى أخرى على خط الصراع.
لكن موقف النظام المتوجّس من الحلول السياسية بوصفها أداة لإسقاطه بطريقة ناعمة، ما كان ليصمد لو توفرت رؤية مقرونة بإرادة للحل لدى الأطراف الدولية المختلفة. هذه الأطراف تعاملت مع الصراع في سورية، كساحة لتحقيق أجنداتها الخاصة وتصفية حساباتها، من دون أن تخلص النية لدعم مطالب الشعب السوري في الحرية والديموقراطية والكرامة.
كما تقتضي الموضوعية عدم إعفاء المعارضة السورية نفسها، بشقيها السياسي والعسكري، من مسؤولية تعثّر الحل السياسي، بسبب انقسامها وتعدّد ولاءاتها الإقليمية والدولية، ، فضلاً عن غياب التنسيق بين هذين الشقين. وهو ما جعل المعارضة نهباً للصراعات والاجتهادات المتضاربة، الأمر الذي أثار مخاوف لدى الدول الداعمة بشأن طبيعة البديل المحتمل عن نظام الأسد.
والواقع أن فرص الحل السياسي في سورية لا تتأثر كثيراً بالانتخابات الرئاسية، سواء أجريت أم لا، بقدر ما ترتبط بمدى اقتناع النظام أن لا خيار أمامه سوى تسليم السلطة. وهو اقتناع لا تدعمه حتى الآن موازين القوى الراهنة بينه وبين المعارضة، وبين حلفائه الإقليميين والدوليين وحلفاء المعارضة.
وبعد فشل مؤتمر جنيف، بدا أن هناك محاولات لزيادة الضغط على النظام على أمل دفعه نحو الحل السياسي، مثل الحديث عن زيادة الدعم العسكري لما سمّي المعارضة المعتدلة ورفع مستوى تمثيل بعثات الائتلاف الدبلوماسية في بعض العواصم. ولكنها جميعها لا تزال محاولات محدودة ومتباطئة. ومن غير المرجح حتى الآن أن يكون لها تأثير واضح على موازين القوى بين الطرفين.
وتدرك المعارضة أن النظام بطبيعة تركيبته الشمولية المتحكمة لا يحتمل تقاسماً حقيقياً للسلطة، لذلك فهي تصر على مبدأ رحيل النظام بكل رموزه ومرتكزاته. والمقصود تحديداً رحيل الصف الأول على الأقل من قياداته فضلاً عن الأجهزة الأمنية والحزبية والسياسية التي يستند إليها.
ولعل المعنى الرمزي الأبرز الذي يحمله تجديد النظام لنفسه بشخص رئيسه بعد ثلاث سنوات من الثورة عليه والثمن الذي دفعه الشعب والبلاد مقابل ذلك، هو أن هذه الانتخابات تمثل تحدياً واستفزازاً سياسياً ورمزياً بأن "ثورتكم" ردت إليكم. فها هو النظام يجدد نفسه بنفسه ولنفسه، أي من دون شعب، أو مع بعض الشعب "الوطني" أو المغلوب على أمره بعدما تمت تنحية الجزء "غير الوطني" وحتى "غير المفيد" من هذا الشعب، قتلاً واعتقالاً وتشريداً.