"دون كيشوت" يغزو العراق

23 ديسمبر 2014

ينسحب "الوهم" على الأنظمة العربية نفسها (Getty)

+ الخط -

أعلن أنا "دون كيشوت" العربي تضامني مع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في خيبته العظيمة، عقب اكتشافه وجود أكثر من 50 ألف جندي عراقي "وهمي"، أعني (دونكيشوتي)، في صفوف الجيش.

وقفت مطولاً على أبواب التكهنات بشأن المقصود بـ"الجنود الوهميين" الذين تحدث عنهم العبادي، وسرعان ما قفز إلى ذهني مشهد أولاد الحيّ المدجّجين برشاشات المياه، وهم يخوضون حروباً "وهمية"، في نظرنا نحن الكبار الوقورين، مع ما يرافق حروبهم من صخب وصراخ طفولي متبادلين، يجعلان من الحيّ كله ميداناً للصراع بين "الماء" و"الماء". وعلى هذا الأساس، تخيلت أن جنود العبادي المقصودين إنما يمتشقون تلك "الأسلحة" التي لا تجندل ولا حتى ذبابات الخيل الدبقة، التي لا يفزعها، أو ينزعها عن جلود ضحاياها غير القنابل النووية.

ثم اكتشفت، بعد طول تفكر وتدبر، أن "الجنود الوهميين" ما هم إلا نتاج الفساد الذي استشرى في مفاصل الحياة العراقية العامة وخلاياها، والذي ما كان إلا ثمرة طفيفة من ثمار "التحرير" الأميركي لهذا البلد، فعرفت أن المقصود مجرد أسماء "وهمية"، مسجلة في كشوف الجيش العراقي، وتتقاضى رواتب شهرية، من دون أن يكون لها وجود حقيقي في الثكنات، أو في ميادين الحرب والقتال (فساد عينك عينك).

عند هذا الحد، زايلتني الدهشة، بل دهشت فقط من دهشة السيد العبادي نفسها، واستغربت أن يعلن عن هذا الاكتشاف في بلد لم يعد قابلاً للدهشة مطلقاً حيال أي حادث، مهما صغر شأنه، فما بالك بمجرد اكتشاف 50 ألف فاسد في جيشه الذي لم يعد يتقن من أساليب القتال غير الفرّ والفرّ، والاستعداد لإخلاء العراق كله أمام "داعشي" واحد يتقن أكثر من حروب الماء.

ولو كان العبادي تأنّى قليلاً، لأحجم عن إعلان اكتشافه المدهش، خصوصاً إذا تأمل في الواقع "الوهمي" لجيوش عربية أخرى لم تتعدّ في حروبها الكبرى، حتى الآن، مرحلة "زبد الماء"، وليس الماء نفسه، ولأدرك حينها أن جنوده الوهميين امتداد طبيعي لرفاق "رشاشات المياه" في الأوطان العربية كلها، ولكفّ، آنذاك، عن دهشته.

أتحدث، هنا، عن جيوش خسرت حروبها "العظيمة" كلها، ولم تفلح إلا في الحروب التي خاضتها ضد شعوبها، فتصبح، بغتة، وبقدرة "بسطار"، جنوداً "حقيقيين" مدججين بالرصاص والدبابات والحقد الذي رضعوه من أثداء أنظمتهم القمعية، فلا يتورعون عن سحق أبناء وطنهم بالآليات الثقيلة، مع ترديد أناشيد النصر والفتح، وكأنهم يحررون القدس والأندلس. جيوش لا تتقن من أبجديات الحرية غير "الحرية" في وأد الثورات والمعارضين، وحماية أصحاب النياشين ورؤوس الأموال، وإطاحة الديمقراطيات الوليدة، وترسيخ حكم العسكر. جيوش لا يفصل بينهم وبين "الوهم" غير خلع البزات العسكرية بكل يسر وسهولة، عند أدنى تهديد حقيقي، واستبدالها بعباءات الحريم، إن لزم الأمر، في سبيل النفاد بجلودها الملوثة بالهزائم والعار.

ولو تعمق العبادي أكثر وأكثر، لأدرك، أيضاً، أن "الوهم" ينسحب على الأنظمة العربية نفسها التي تحرك هذه الجيوش، فهي "دون كيشوتات" تتحرك بأيدي العالم "الواقعي" كيف شاء ومتى أراد، ولعرف، أيضاً، أن الخريطة العربية كلها رقعة "وهم" على الكرة الأرضية الحديثة التي تحتل أقطابها وشعابها ديمقراطيات حقيقية وجنود حقيقيون يعرفون قيمة الإنسان، ويقدرون كرامته جيداً.

عند هذا الحد، أجدني مضطراً، أنا "دون كيشوت" العربي إلى فضّ تعاطفي مع السيد العبادي، الذي يبدو أنه ما يزال حديث عهد بالسياسة العربية التي نجحت بجعل آمالنا كلها مجرد أوهام غير قابلة للتحقق، إلا حين يزهر الملح. غير أني على استعداد لاستئناف تعاطفي معه، في حال عكس دهشته، ليعلن عن اكتشاف 50 ألف جندي "حقيقي" في صفوف جيشه، لأن هؤلاء "الوهميين" هم الجنود الحقيقيون فقط في ميادين القتال العربية.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.