"دوغمان" لماتّيو غارّوني: انقلاب الأقدار

18 يونيو 2018
مارتشيلو فونتي أثناء تسلمه جائزة أفضل ممثل في كانّ(Getty)
+ الخط -
يتراكم العنف تدريجيًا في ذات مارتشيلّو (مارتشيلّو فونتي، 1978)، الشخصية الأساسية في "دوغمان" (2018)، الروائي الطويل الجديد للإيطالي ماتّيو غارّوني (1968)، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ (جائزة أفضل ممثل لمارتشيلّو فونتي). سلوكه هادئ. طبيعته قلقة، تدفعه إلى الحياد في المسائل كلّها تقريبًا في بلدته الصغيرة. اهتمامه بالكلاب (تربية وتنظيفًا ومعالجة وانفعالات إيجابية صادقة إزاءها) يحصّن عزلته. ابنته الوحيدة، المقيمة مع والدتها بعد طلاق الأبوين، تجعله سعيدًا عند لقائهما من حينٍ إلى آخر، خصوصًا أثناء ذهابهما معًا إلى البحر لممارسة رياضة الغطس. شباب الحيّ ورجاله يُعاملونه بشكل عاديّ للغاية، لكن صديقه سيمونتشينو (إدواردو بيستشي، 1979) يحيطه بكمّ هائل من العنف المباشر، إذْ يُسرف في تعاطي المخدّرات ـ التي يؤمّنها له مارتشيلّو ـ ويمتلك عنفًا فائضٍا يمارسه على كثيرين، إلى درجة أنهم يُقرّرون ـ رغم معارضة البعض القليل منهم ـ "تصفيته الجسدية"، بينما يقول أحدهم إنّ عليهم "تركه" لأن يومًا ما سيموت بشكل طبيعي. 

رغم إدراك مارتشيلّو تفكير الأصدقاء ونوايا بعضهم، لن يبوح لصديقه بشيء. ورغم تحمّله عنفًا كبيرًا منه، لن يتوقّف عن مساعدته وتلبية حاجاته. وهذا كلّه لن يفهمه سيمونتشينو أو يُقدِّره، وهو لن يتردّد عن توريط "صديقه الوحيد" في سرقات صغيرة، قبل أن يضغط عليه بحدّة لترتيب سرقة مجوهرات الدكان الملاصق لدكانه. الاتهام الأول موجَّه إلى مارتشيلّو، لكن المحقِّق يُدرك في قرارة نفسه أن "مربّي الكلاب" عاجزٌ عن ارتكاب فعلٍ جرميّ كهذا. لن يشي مارتشيلّو بصديقه، بل سيبقى مسجونّا عامًا كاملاً، وسيتخلّى الجميع عنه بالتأكيد.

بهدوء دراميّ تام، يسرد ماتّيو غارّوني حكاية مارتشيلّو. هدوء مُشبع بلقطات تعكس جوانب مختلفة من حياته ويومياته والتركيبة النفسية والروحية والجسدية لشخصيته. في الوقت نفسه، يحمل الهدوءُ في السرد والمعالجة تكثيفًا إنسانيًا مفتوحًا على تصوير دقيق لأحوال تلك البلدة وناسها، ولمشاغلهم وأزماتهم ويومياتهم. والسرد نفسه يُكوِّن في مساره تراكمًا تدريجيًا لحالة العنف التي تتفاعل شيئًا فشيئًا في ذات مارتشيلّو، ولحالة التمرّد المرتبك على واقعه لاحقًا، إلى درجة أنه يُفرِّغ التراكمات الكثيرة باستدراج سيمونتشينو إلى محلّه و"أسره" في قفص للكلاب، كي ينتقم لنفسه منه... بقتله بعنفٍ يكاد يتفوّق على كلّ العنف المُمَارَس عليه سابقًا.



والقتل هذا مرهونٌ، أيضًا، باستعادة ثقة أهل البلدة فيه، ما يدفعه إلى سعي محموم إلى الحصول على شفاعة أولئك المنفضّين عنه، أو غير المهتمّين به، منذ اتّهامه بالسرقة. السرد ـ بإيقاعه الهادئ كهدوء السرد نفسه ومعالجة الحبكة أيضًا ـ يتكوّن من تفاصيل هامشية في حياة كاملة للبلدة، وفي يومياتٍ مُثقلة بتناقض واضح بين سكينة تظهر في المشهد الأمامي وغليان يعتمل ـ بشكلٍ مبطّن ـ في نفوسٍ وأرواحٍ.

لذا، يكشف التوليف (ماركو سبولِتيني، 1964) جمالية التصوير (نيكولاي برويل، 1965) المفتوح على بعض المساحات الواسعة، كما على كثرة اللقطات القريبة والضيّقة، في تناسقٍ متكامل بين سيرة رجلٍ وحياة بلدة وتناقضات العيش وارتباكاته.
المساهمون