تحاول روسيا ترسيخ أقدامها أكثر في المشهد السوري، والتفرد فيه، من خلال إبرام اتفاقيات مع المعارضة السورية في مناطق "خفض التصعيد" التي أقرها مسار أستانة، تنهي حالة الصراع بين المعارضة والنظام، في مقابل فك طوق الحصار المفروض من الأخير عن المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة، في التفاف واضح على قرارات دولية تنص على إنهاء حالة الحصار، وإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام.
وتستخدم موسكو "العصا الغليظة" لدفع المعارضة السورية إلى توقيع اتفاقيات تستهدف "تبريد" الجبهات، في مسعى لإعادة انتاج النظام، الذي بات مجرد واجهة سياسية ضامنة للمصالح الروسية والإيرانية في سورية. وفي هذا السياق، قالت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إن ممثلين عن روسيا عرضوا على المعارضة السورية المسلحة في ريف حمص الشمالي مسوّدة اتفاق وقف إطلاق نار تام في المنطقة، تتضمن أيضاً فك الحصار الذي تفرضه قوات النظام عليها، والذي تسبب بمآسٍ إنسانية على مدى نحو ست سنوات. وأوضحت المصادر أن فصائل من الجيش السوري الحر اشترطت "أن تكون تركيا ضامناً للاتفاق للدخول فيه، والبدء بمفاوضات حول كيفية تطبيقه"، موضحة أن مشروع الاتفاق ينص على "وحدة الأراضي السورية وعدم السعي إلى تقسيمها"، و"ضمان وقف إطلاق النار بكافة أنواع الأسلحة، وعدم التعدي على مناطق السيطرة من قبل جميع الأطراف".
كما يتضمن الاتفاق "العمل على إنشاء لجنة للبحث في أوضاع المعتقلين للعمل على إخراجهم من قبل جميع الأطراف، والإعلان بالموافقة على أن يكون الضامن هو الجانب الروسي". ويشير مشروع الاتفاق إلى "نشر قوات مراقبة (شيشانية)، والسماح بإدخال المواد الغذائية، والمحروقات والبضائع وقطع الغيار من ريف حمص الشمالي وإليه من دون التقيد بكمية محددة". ويشترط مشروع الاتفاق عدم دعم الفصائل التي تحمل فكر تنظيم "القاعدة"، على أن تتولى إدارة مناطق الريف الشمالي المكاتب المدنية والمجالس المحلية، مع السماح بإدخال مواد البناء للبدء بعملية الإعمار بعد تقديم الكمية ودراستها من قبل لجنة مختصة. وأشارت المصادر إلى أنه "لم يتم التطرق للأسلحة في المنطقة، ما يعني بقاء السلاح بأيدي فصائل المعارضة تحسباً لأي محاولة غدر من قبل قوات (بشار) الأسد"، وفق المصادر التي أكدت أنها رفضت أن يكون رئيس تيار "الغد" السوري، أحمد الجربا، وسيطاً في الاتفاق.
من جانبه، أوضح قائد حركة "تحرير الوطن" في حمص، العقيد فاتح حسون، لـ "العربي الجديد"، أن هناك "مفاوضات غير معلنة تجري في مصر"، لبلورة اتفاق يخص شمال حمص، لكنه لفت إلى أن الشخصيات التي تفاوض الجانب الروسي "غير مفوضة من مناطق الريف الشمالي لحمص"، مشيراً إلى صدور بيانات واضحة "من الفعاليات المدنية والتشكيلات العسكرية ترفض ذلك". وأشار إلى أنه "رافق هذا الرفض غارات جوية على منطقة الحولة" شمال غربي حمص، مرجحاً أن يكون ذلك "محاولة من الروس للضغط لإنجاز الاتفاقية من دون الضامن التركي". وأشار إلى أن التسريبات عن بنود الاتفاق "يمكن أن تكون تحمل جانباً من الصحة"، مضيفاً إن صحت فإن موسكو تريد إبعاد تركيا عن أن تكون ضامناً، حتى يفرض الروس ما يريدونه.
واعتبر حسون أن مشروع الاتفاق "التفاف على القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الذي ينص على وقف إطلاق النار، وإخراج المعتقلين، وفك الحصار، وإدخال المواد الغذائية". وأشار إلى أنه اتفاق متراجع جداً عن اتفاق "خفض التصعيد" بوجود الضامن التركي، ويتم في ظل غياب كامل لمؤسسات الثورة (الائتلاف الوطني، والهيئة العليا للمفاوضات) عنه، إضافة إلى غياب مؤسسات وتشكيلات حمص المعنية بالتطبيق، أي لا يوجد ضامن للاتفاق. ولا يزال أغلب ريف حمص الشمالي تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ويضم عدة مدن وبلدات، أهمها الرستن، وتلبيسة، إضافة إلى بلدات منطقة الحولة شمال غربي حمص. وتسبب الحصار والقصف الجوي، المتواصل منذ العام 2012، على هذا الريف إلى مقتل وإصابة آلاف المدنيين، وتهجير آلاف آخرين، فضلاً عن الدمار الكبير الذي طاول مدنه وبلداته وقراه. وكانت روسيا قد أعلنت عن تدخلها العسكري المباشر في سورية أواخر العام 2015 بقصف ريف حمص الشمالي، الذي يضم عدة فصائل عسكرية تتبع الجيش السوري الحر، مثل "جيش التوحيد"، و"الفرقة 313"، و"جيش العزة"، و"حركة تحرير الوطن"، و"فيلق حمص"، وفصائل معارضة أخرى، منها "ألوية الرستن"، و"ألوية الحولة"، و"حركة أحرار الشام الإسلامية"، و"جيش الإسلام".
من جانبه، أكد العقيد مصطفى بكور، قائد العمليات في "جيش العزة" الذي يحتفظ بوجود له في ريف حمص الشمالي، إضافة إلى انتشاره الأهم في ريف حماة الشمالي، أنه "لا يوجد أي تفاوض بيننا وبين النظام أو الروس أو الإيرانيين"، مضيفاً أن "جيش العزة" غير ملزم بأي اتفاق لا يحقق أهداف ثورتنا في إسقاط النظام وخروج القوى الأجنبية والمليشيات من الأرض السورية. وأوضح أن "جيش العزة فوّض لواء العاصفات في حمص بالتصرف بما يتناسب مع مصلحة المنطقة، ويحقق أهداف الثورة، لأنه ليس الفصيل الوحيد في المنطقة، ولا يمكنه العمل بشكل مستقل عن الفصائل الأخرى في ظروف الحصار".
وتأتي المحاولة الروسية لإبرام اتفاق في شمال حمص بعد أيام فقط من اتفاق مماثل شمل الغوطة الشرقية لدمشق، والمحاصرة منذ أكثر من 4 سنوات. كما يلي اتفاقاً بين روسيا وأميركا والأردن، لم تكن إسرائيل بعيدة عنه، خاصاً بالمنطقة الجنوبية من سورية، والتي تشمل درعا والسويداء والقنيطرة. وكان اجتماع "أستانة 4" قد تمخض، في مايو/أيار الماضي، عن إعلان محافظة إدلب وأجزاء من محافظات اللاذقية وحلب وحماة وحمص وريف دمشق (الغوطة الشرقية) ودرعا والقنيطرة مناطق "وقف تصعيد"، تمتنع الأطراف المتحاربة فيها عن القتال، ويعلّق طيران النظام السوري طلعاته الجوية فوقها. ووقع على الاتفاق تركيا وروسيا وإيران، وهي الدول الضامنة لاتفاق التهدئة في سورية، لكن المعارضة السورية رفضت وجود إيران كدولة ضامنة "لأنها دولة طائفية محتلة تقتل الشعب السوري"، وفق مصادر المعارضة. ولم ينجح الثلاثي الضامن في "أستانة 5" مطلع الشهر الماضي، في التوصل إلى خطة ترسم حدود مناطق "خفض تصعيد" في سورية، وتحدد الطرف الذي يتولى مهمة حفظ الأمن فيها، خصوصاً في المنطقة الأولى، وهي محافظة إدلب. وبدأت موسكو التحرك بمفردها لإبرام اتفاقيات في مناطق "خفض التصعيد" بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ومن دون حضور فاعل لتركيا وإيران، في محاولة للهيمنة على القرار السوري من طرفي النظام والمعارضة. واعتبرت مصادر في المعارضة السورية هذه الاتفاقيات محاولة متقدمة لتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، في ظل عدم وجود إرادة دولية للتوصل إلى حل سياسي شامل للقضية السورية.