02 نوفمبر 2024
"حكمة" لا تحتملها صحافة... في مصر
يمضي الصحافي المخضرم جُل الوقت المخصص للمقابلة التي "منحها" له الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لمناسبة مرور عامين على حكمه البلاد، بين هزة رأس أو ابتسامةٍ، تأييدا أو استطراداً أو مغالاة على ادعاءات الأخير، حتى يبدو للمشاهد أن السيسي يلقي محاضرة على مجموعة من طلاب المدرسة (المواطنون)، بحضور المدرس- المحاور الافتراضي.
قدّم المحاور المصري الصحافي المخضرم نموذجاً في الحوار السياسي، يصح أن يقدم مثالاً لما كان عليه الحوار السياسي قبل تحرير الإعلام من سطوة السياسة، وتطور دور الإعلامي من التابع للسياسي إلى الخصم الشرس له، ولسياساته في "ثقافاتٍ" و"ظروفٍ" مغايرة. في حين تقوم عادة سمعة المحاور البريطاني على قدرته على إبداء "قلة الأدب" في التعامل مع رجل السلطة، لإحراجه في سبيل الحصول على المعلومة الجديدة أو الموقف الخاص. قدّم المحاور المصري، وهو نموذج لعديد من أمثاله في العالم العربي، كل أسباب الراحة لمحاوره، ليعبر عن مواقفه، بما في ذلك ادعاءات لا تمت إلى الواقع بصلة، حتى لتبدو أسئلة الحوار كأنها قصيدة في التغني بإمكانات الزعيم. ما الذي اعتقد بعضهم أنك تخاف منه، وأثبت لهم أنك "ما بتخافش"؟ من هم أهل الشر الذين تحدّثت عنهم؟ هل يمكن أن تسميهم؟ هل حجم المؤامرة لا يزال كبيراً على مصر؟ وغيرها من الأسئلة التي يقول الصحافي المخضرم إنها لم تجهز له، بل إنها من بنات أفكاره وإعداده.
في الوسع تخيّل قدر الإحراج الذي أصاب السيسي، وهو يجيب عن هذه الأسئلة المباشرة والصريحة. بالإمكان أيضاً تخيّل الصعوبة التي لاقاها في الإمساك بخيط الحديث في مقارعة الصحافي المحترف الذي ترك المسؤول يسرح ويمرح، في الوقت المخصص لكل إجابة، باعتبار أن المقابلة له والوقت وقته. ينسج السيسي صورةً وهميةً لوطنٍ غير موجود، فالمؤسسات تقاوم وتستمر، ولدى المواطنين الوعي والقدرة على الفرز بين الجيد والسيئ، وهم لا يخافون شيئاً (إلا سجونه طبعاً). يتلعثم السيسي في العثور على كلمةٍ لوصف ما يسميها محاولات تحريك المصريين من قوى كثيرة في الداخل والخارج، فيُسارع المحاور إلى إمداده بالتعبير المناسب: تقصد تأليب الناس؟
ينافس المحاور الافتراضي السيسي على الولاء لنفسه، يزايد عليه في إجاباته الأكثر غلوا
ويضيف إليها، يسارع إلى سحب أي تعبير قد يجده السيسي غير مناسب كأن يسأله عن سبب تأخره في الترشح لرئاسة الجمهورية، هل هو التردّد مثلا، ثم يستدرك معلقاً أن كلمة تردّد قد لا "تليق" في التعاطي مع الزعماء. يتفوّق المحاور على نفسه، عندما يتناول ملف حقوق الإنسان، ليسأل الرئيس في نبرةٍ ساخرة "يعني لن يُقبض على من يتكلم ويسجن؟" يغرق السيسي في الضحك ومعه المحاور... طبعاً هل يعقل ذلك؟ معلومات منظمات حقوق الإنسان عن الحالة الحقوقية المتردية في مصر ليست سوى جزء من الحملات على البلاد.
تقدّم المقابلة نموذجاً يمكن تدريسه لأشكال الابتذال الإعلامي للصحافي الموظف لدى رجل السلطة، وهي حالة ميّزت مجموعة من "شيوخ المهنة" من مخضرمي الإعلام (وليس كلهم بالتأكيد) في علاقاتهم برجال السلطة. يعتبر الإعلامي المنبطح أن حظوة الوصول إلى المسؤول هي التعبير الأكثر واقعيةً على نجاحه المهني. بالنسبة لهذا النموذج من الصحافيين، يكون الوصول إلى الزعيم أكثر أهميةً من الوصول إلى الخبر، باعتبار الخبر المعلومة المناسبة للحاكم لنشرها.. أو لحجبها، حتى ولو كانت في صلب الصالح العام.
لا يسأل المحاور الفذّ الرئيس المصري عن مسائل جدليةٍ بديهيةٍ في حوار السيسي الذي باتت انتهاكات نظامه مادة يوميةً دسمة للإعلام العالمي، ومنها قرار نقل السيادة عن جزيرتي تيران وصنافير وردود الفعل الغاضبة في الشارع المصري، والتراجع الاقتصادي والغلاء المتزايد والكلفة المادية والبشرية لعمليات مكافحة الإرهاب، والتدهور المريع في حقوق الإنسان، والسجون التي تعج بالمعتقلين السياسيين، والتعذيب والاختفاء القسري.. ستكون هذه الأسئلة طبعاً من باب قلة الأدب، إذا ما جرؤ على تناولها.
بموازاة "حكمة" شيوخ المهنة، تتطوّر أشكالٌ حديثة من التغطية الإعلامية أكثر وقاحةً على يد شباب المهنة رواد التحقيق الاستقصائي، من هواة نقل صوت الشارع وهموم الناس. عكست مرحلة ما بعد الثورات والثورات المضادة حالات تمرّدٍ داخل المؤسسات الإعلامية لشبان طالبوا أولياء الأمر الإعلامي باستقلاليةٍ لا يقوى هؤلاء حتى على تخليها. يدفع بعض هؤلاء الثمن توقيفاً اعتباطياً أو محاكمةً بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، بما يعني ضمناً محاولة الصحافي القيام بمهام عمله، أي تحرّي الحقائق وفضحها.
سوف يقول بعض "الحكماء" إن المقارنة بما هو معتمد في الغرب غير جائزة، باعتبار أن الإعلام المحلي لم ينجز الخطوات نفسها في التحرّر، ولا يتمتع بالحقوق والحمايات نفسها. بالنسبة لهؤلاء، يحب أن تستمر هذه الظروف إلى ما لا نهاية، ومعها تستمر سيطرتهم على القرار التحريري والمنافع المرتبطة بها. ولعل سؤال المحاور "الشرس" للسيسي، إذا ما كان راضياً عن المواطنين المصريين، وعن الهيئات المنتخبة الجديدة، في حين يفترض أن تكون المقابلة مناسبةً لتقصي رضا المواطنين بالرئيس، نموذجا لـ"حكمة" كبار المهنة. الجواب عند صغارها.
قدّم المحاور المصري الصحافي المخضرم نموذجاً في الحوار السياسي، يصح أن يقدم مثالاً لما كان عليه الحوار السياسي قبل تحرير الإعلام من سطوة السياسة، وتطور دور الإعلامي من التابع للسياسي إلى الخصم الشرس له، ولسياساته في "ثقافاتٍ" و"ظروفٍ" مغايرة. في حين تقوم عادة سمعة المحاور البريطاني على قدرته على إبداء "قلة الأدب" في التعامل مع رجل السلطة، لإحراجه في سبيل الحصول على المعلومة الجديدة أو الموقف الخاص. قدّم المحاور المصري، وهو نموذج لعديد من أمثاله في العالم العربي، كل أسباب الراحة لمحاوره، ليعبر عن مواقفه، بما في ذلك ادعاءات لا تمت إلى الواقع بصلة، حتى لتبدو أسئلة الحوار كأنها قصيدة في التغني بإمكانات الزعيم. ما الذي اعتقد بعضهم أنك تخاف منه، وأثبت لهم أنك "ما بتخافش"؟ من هم أهل الشر الذين تحدّثت عنهم؟ هل يمكن أن تسميهم؟ هل حجم المؤامرة لا يزال كبيراً على مصر؟ وغيرها من الأسئلة التي يقول الصحافي المخضرم إنها لم تجهز له، بل إنها من بنات أفكاره وإعداده.
في الوسع تخيّل قدر الإحراج الذي أصاب السيسي، وهو يجيب عن هذه الأسئلة المباشرة والصريحة. بالإمكان أيضاً تخيّل الصعوبة التي لاقاها في الإمساك بخيط الحديث في مقارعة الصحافي المحترف الذي ترك المسؤول يسرح ويمرح، في الوقت المخصص لكل إجابة، باعتبار أن المقابلة له والوقت وقته. ينسج السيسي صورةً وهميةً لوطنٍ غير موجود، فالمؤسسات تقاوم وتستمر، ولدى المواطنين الوعي والقدرة على الفرز بين الجيد والسيئ، وهم لا يخافون شيئاً (إلا سجونه طبعاً). يتلعثم السيسي في العثور على كلمةٍ لوصف ما يسميها محاولات تحريك المصريين من قوى كثيرة في الداخل والخارج، فيُسارع المحاور إلى إمداده بالتعبير المناسب: تقصد تأليب الناس؟
ينافس المحاور الافتراضي السيسي على الولاء لنفسه، يزايد عليه في إجاباته الأكثر غلوا
تقدّم المقابلة نموذجاً يمكن تدريسه لأشكال الابتذال الإعلامي للصحافي الموظف لدى رجل السلطة، وهي حالة ميّزت مجموعة من "شيوخ المهنة" من مخضرمي الإعلام (وليس كلهم بالتأكيد) في علاقاتهم برجال السلطة. يعتبر الإعلامي المنبطح أن حظوة الوصول إلى المسؤول هي التعبير الأكثر واقعيةً على نجاحه المهني. بالنسبة لهذا النموذج من الصحافيين، يكون الوصول إلى الزعيم أكثر أهميةً من الوصول إلى الخبر، باعتبار الخبر المعلومة المناسبة للحاكم لنشرها.. أو لحجبها، حتى ولو كانت في صلب الصالح العام.
لا يسأل المحاور الفذّ الرئيس المصري عن مسائل جدليةٍ بديهيةٍ في حوار السيسي الذي باتت انتهاكات نظامه مادة يوميةً دسمة للإعلام العالمي، ومنها قرار نقل السيادة عن جزيرتي تيران وصنافير وردود الفعل الغاضبة في الشارع المصري، والتراجع الاقتصادي والغلاء المتزايد والكلفة المادية والبشرية لعمليات مكافحة الإرهاب، والتدهور المريع في حقوق الإنسان، والسجون التي تعج بالمعتقلين السياسيين، والتعذيب والاختفاء القسري.. ستكون هذه الأسئلة طبعاً من باب قلة الأدب، إذا ما جرؤ على تناولها.
بموازاة "حكمة" شيوخ المهنة، تتطوّر أشكالٌ حديثة من التغطية الإعلامية أكثر وقاحةً على يد شباب المهنة رواد التحقيق الاستقصائي، من هواة نقل صوت الشارع وهموم الناس. عكست مرحلة ما بعد الثورات والثورات المضادة حالات تمرّدٍ داخل المؤسسات الإعلامية لشبان طالبوا أولياء الأمر الإعلامي باستقلاليةٍ لا يقوى هؤلاء حتى على تخليها. يدفع بعض هؤلاء الثمن توقيفاً اعتباطياً أو محاكمةً بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، بما يعني ضمناً محاولة الصحافي القيام بمهام عمله، أي تحرّي الحقائق وفضحها.
سوف يقول بعض "الحكماء" إن المقارنة بما هو معتمد في الغرب غير جائزة، باعتبار أن الإعلام المحلي لم ينجز الخطوات نفسها في التحرّر، ولا يتمتع بالحقوق والحمايات نفسها. بالنسبة لهؤلاء، يحب أن تستمر هذه الظروف إلى ما لا نهاية، ومعها تستمر سيطرتهم على القرار التحريري والمنافع المرتبطة بها. ولعل سؤال المحاور "الشرس" للسيسي، إذا ما كان راضياً عن المواطنين المصريين، وعن الهيئات المنتخبة الجديدة، في حين يفترض أن تكون المقابلة مناسبةً لتقصي رضا المواطنين بالرئيس، نموذجا لـ"حكمة" كبار المهنة. الجواب عند صغارها.