قبل 5 أعوام، كان "جون ويك" مجرّد اسم فيلم حركة جديد، بميزانية منخفضة (20 مليون دولار أميركي)، لمخرج في بداية مسيرته (شاد ستاليسكي)، وممثل يعاني أفولاً طويلاً (كيانو ريفز). لم يتوقّع أحدٌ أبدًا أن يصاحب عرض الفيلم هذا الكمّ من النجاح (نقديًا وجماهيريًا)، لكلاسيكيته في تنفيذ مشاهد الـ"أكشن"، ولاعتماده على ممثلين، وعلى تصميم متقن بدلاً من الـCGI والمؤثّرات البصرية، التي تحكم كلّ شيء في السينما حاليًا. منذ عام 2014، تحوّل جون ويك إلى سلسلة تكبر جماهيريتها مع كلّ جزء جديد، لأنّ صنّاعها أدركوا مَكْمن تميّزهم واستغلالهم إياها بشدّة، دائمًا. هذا يتأكّد مُجدّدًا مع الجزء الثالث، بعنوان Jack Wick: Chapter 3 – Parabellum لستاليسكي نفسه أيضًا، مع كيانو ريفيز طبعًا.
إحدى نقاط التميّز في السلسلة تكمن في "خلق عالم"، يتمّ التعرّف على أبعاده والتعمّق فيها جزءًا تلو آخر. في الجزء الأول، يتعرّف المُشاهد إلى البطل أثناء تنفيذه مهمة انتقامية، وعلى الفندق الذي يعيش فيه القتلة المأجورون، وعلى القطع الذهبية التي تعتبر عملتهم الرسمية. في الثاني، يتمّ اكتشاف أنّ مدينة نيويورك غير واقعية، وأنّ كلّ من فيها قتلة مرتبطون بـHigh Table، أي مجلس الجريمة الذي يُدير هذا العالم. في الثالث، يحدث تعمّق أكثر في أشكال العلاقات بين المنظمات الإجرامية، على خلفية قرار المجلس بالتخلّص من جون ويك، الذي يُصبح مُطارَدًا من الجميع تقريبًا.
يتمدّد العالم والشخصية في مسار أحداث الأفلام الـ3، إلى درجة أن المشهد الختامي للجزء الثاني هو نفسه المشهد الافتتاحي للثالث، وهذا يخلق رابطًا أقوى مع الحبكة والتفاصيل، ويُثير فضولاً إزاء ما تحمله المدينة. فضولٌ يدركه صنّاع السلسلة، من دون أنْ يكشفوا عن كلّ ما يملكونه دفعة واحدة، فتّتسع دائرة الصراع ببطء، في كلّ مرة، فيظهر المزيد من المخبّأ.
رغم جودة خلق العالم، وتماسك الحبكة إلى حدّ بعيد، فإنّ نقطة التميّز الأكبر في الجزء الثالث، التي لا تخذل المتابعين أبدًا، هي مشاهد الـ"أكشن"، بجانبيها الاثنين: الابتكار والتنفيذ.
في الابتكار، هناك أفكار مميّزة لمَشَاهد حركة غير مسبوقة. في الجزء الثالث مثلاً، هناك مشهد قتال بالسكاكين في ممرّ ضيّق، ومطاردة يمتطي جون ويك فيها حصانًا، أثناء ملاحقته من راكبي درّاجات نارية، وقتال بين كلبين. هذه كلّها أفكار حركة مُبهرة ومدهشة، لاختلافها عن السائِد والمكرّر.
في التنفيذ، هناك خبرة تشاد ستاليسكي. سابقًا، عمل كبديل يؤدّي مشاهد قتالية خطرة بنفسه، علمًا أنّ أشهرها متمثّل في كونه بديلاً لريفز، مؤدّي شخصية "نيو" في الثلاثية المشهورة The Matrix، للثنائي واتشوفسكي، التي أنجزها بين عامي 1999 و2003. خبرة درّبته على عدم الاعتماد على المؤثّرات في تنفيذ المَشَاهد المرسومة بدقّة بين الممثلين، وهو يفعل هذا بشكل رائع مرة أخرى، من دون الاعتماد على قطعات مونتاجية سريعة، أو حيل وألاعيب صارت مكرّرة في أفلام الأعوام الأخيرة. فقط، يبذل جهدًا خارقًا في تحضير الممثلين وتدريبهم، إلى درجة أن هال بيري تقوم بأداء حركي وجسدي رائع، وهي في الخمسينيات من عمرها، ما أتاح التصوير بلقطات واسعة تكشف تفاصيل كثيرة تظهر من دون قطع أو مونتاج، فتبدو كأنّها حقيقية بشكل لا تضاهيه أعمال حركة أخرى حاليًا. هذا كلّه ما يجعل "جون ويك" وعالمه مختلفَين، فتبدو السلسلة قابلةً لتحقيق أجزاء أخرى.