لا يزال الكاتب الفرنسي جول فيرن (1828-1905) يمثّل إلى أيامنا أشهر أسماء روايات الخيال العلمي، على الأقل في بلاده فرنسا، وهو وضع متأتٍ بالأساس من امتنان لشخصية أدبية أمدّت كثيرين في سنوات يفاعتهم بساعات من متعة قراءة المغامرات الشيّقة فاتحاً أذهانهم على فضاءات تخييلية شاسعة، من "الجزيرة الغامضة" إلى "20 ألف موقع تحت الماء" مروراً بـ "حول العالم في ثمانين يوماً".
في معرض يتواصل حتى 19 من الشهر الجاري، يجري تقديم صاحب "رحلة إلى مركز الأرض" من زاوية مختلفة تماماً، زاوية المساهمة اللغوية، أي الإضافة التي قدّمها أدبه إلى اللغة الفرنسية، فالخروج بالخيال الروائي إلى فضاءات أوسع من الواقع كان يفرض على الكاتب اجتراح كلمات جديدة ليست من عالمنا، ولكنها حين تُطبع في كتاب وتتداولها الأعين القارئة تتحوّل إلى جزء منه، وقد يعتمدها علماء من بين مصطلحاتهم، فتجد مكانها بصفة نهائية في قواميس اللغة الفرنسية كأي كلمة أخرى. يرصد المعرض هذه المسالك التي تأخذها كلمات من رواية إلى أن تتجسّم في مخترع علمي أو في اسم أحد الكائنات الحية التي كانت غير مسمّاة.
ينظَّم المعرضُ في مكتبة مدينة نانسي (شرق فرنسا) وهو يحمل عنوان "جول فيرن واللغة الفرنسية" وقد صمّمه باحثون في "مخبر تحليل ومعالجة اللغة الفرنسية باعتماد التكنولوجيا" ضمن مشروع بعنوان "بناء فضاء للمعرفة".
يجد الزائر أمامه مجموعة من المداخل بحسب اختصاصات استفادت من "خيال" جول فيرن، مثل علوم الأحياء التي تهتم بالنبات أو الحيوانات البحرية، وتكنولوجيا الطيران والفضاء، وتقنيات البحث العلمي. مثلاً، نجد تصميماً لطائرة أو مجهراً كما تخيّلهما فيرن في إحدى رواياته وأمامهما معلّقة تحمل المقطع الذي حضرت فيه.
في المجمل، يقدّم المعرض مقولة أساسية تتعلق بدور الخيال في تغذية اللغة، وبالتالي الواقع، خصوصاً من خلال المنتج الأدبي. هذا الطرح في فهم جول فيرن يثير هواجس عدة حول حيوية إدخال مفردات جديدة إلى لغتنا، فهل يقوم روائيونا بهذا الدور؟ علاوة على عدم نضج رواية خيال علمي في ثقافتنا، والقطائع المصطنعة بين الأدب والباحثين في العلوم الصحيحة.
هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ توجد في العربية قطيعة مع جول فيرن نفسه، فهو وإن كان اسماً معروفاً إلى حد ما، حيث أن أعماله مقرّرة في معظم المناهج الدراسية في البلاد التي تعتمد الفرنسية لغة تدريس، فإنه لم يحظ بترجمات (روائية) إلى العربية، وما نجده هو اقتباسات مبسّطة تحصر جول فيرن في صورة كاتب أطفال.
ومن المعرض نفهم أن ترجمة صاحب "مغامرات ميشيل ستروغوف" كانت ستمثّل تمريناً خاصاً في تسمية أشياء ليست من العالم ثم تحويلها إلى جزء منه. ربما، وبقصد، جرى تحاشي هذا التمرين، غير أن لغتنا كانت الخاسر.