احتفالات الفصح لدى الطوائف المسيحية التابعة للتقويم الغربيّ (12 إبريل/ نيسان 2020) تترافق مع مُشاهدة ثانية لـ"إنْ شئتَ كما في السماء" لإيليا سليمان. المشهد الافتتاحي يُقدِّم احتفالاً كنسياً بالفصح، بلغة ساخرة تُثير الضحك. ترتيلة يُطلَب فيها فتح الأبواب لقيامة جديدة، لكن المُكلَّف بفتح باب الكنيسة يسخر من الكاهن ويرفض تنفيذ المهمّة، قبل أن ينقضّ الكاهن عليه بالضرب، داخلاً عليه من بابٍ خلفيّ. وعندما يفتح الكاهنُ نفسه البابَ، يتابع طقوس الاحتفال "كأنّ شيئاً لم يكن".
يصعب اختزال المشهد بكلمات. الصُور السينمائية التي يصنعها إيليا سليمان أجمل من أنْ تُحوَّل إلى جُمَلٍ. افتتاحيات أفلامه الـ4 ـ "سجل اختفاء" (1996) و"يد إلهية" (2002) و"الزمن الباقي" (2009) و"إنْ شئت كما في السماء" (2019) ـ مداخل إلى عوالم يعتاد ابن الناصرة صُنعها بأشكالٍ غير متوقعة. المتتاليات التي تتضمّنها أفلامه تلك، رغم تشابهٍ في بنائها الشكلي، توقع مُشاهدَها في عشق الصورة والسخرية والمرارة والتمزّق والمواجهة والكشف.
يستحيل توقّع ما سيصنعه إيليا سليمان لاحقاً. كلّ جديد قابل للانتظار، وكل انتظار ينتهي بصدمةٍ بهيّة إزاء ما يعتمل في ثنايا جديده من جماليات سينمائية لا تنضب. ومع نهاية كلّ فيلمٍ، يتساءل المُشاهِد: "هل سيتمكّن سليمان من صُنع جديد ساحر بعد؟". يأتي الجواب مع الجديد الساحر بعد وقتٍ، يطول هذه المرة إلى 10 أعوام، فـ"الزمن الباقي" مُنجز عام 2009. التصفيق الذي يملأ "صالة لوميير" في "قصر المهرجانات"، بعد العرض الدولي الأول لـ"إنْ شئتَ كما في السماء" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي (تنويه خاص)، لن يكون دليلاً على جمالية سينمائية فقط، بل تمهيداً لانتظار ما تحمله قدرات المخيّلة السليمانية من ابتكارات.
المشهد الافتتاحي والفيلم معاً يُشاهَدان ثانية عشية أحد الفصح الغربيّ. لكن الشوارع الخالية من ناسها في باريس، كما يلتقطها إيليا سليمان في جديده هذا، مُخيفة، لشدّة تطابقها مع زمن "كورونا". هذه ليست "نبوءة" سليمانية، بل رغبة في كشف المغاير للمتوقّع في مدينة مليئة بالجميلات، لكنها مضغوطة بالعسكر والفراغ واللامبالاة، وبأشياء كثيرة يختزلها سليمان في لقطات تُعبِّر عن ذاتها بذاتها. انتقاله إلى الولايات المتحدّة وعودته إلى فلسطين جزءٌ من مسارٍ يبدأه المخرج في الناصرة، التي يغوص في مسامها ونبضها وهوامشها أكثر فأكثر.
الجار الذي يحتسي العرق بكثرة، ويريد إحراق نفسه (الزمن الباقي)، يغرق في التمزّق الذاتي، مع تخيّلات تأخذه إلى الأسطوريّ والمبالَغ به لشدّة الخراب فيه (إنْ شئتَ كما في السماء). يستعين سليمان مجدّداً بـI Put A Spell On You، لكنْ هذه المرّة مع نينا سيمون (المرة السابقة مع ناتاشا أطلس في "يد إلهية"). يهيم في الشوارع والفراغ والوحدة والكأس والتأمّل والدهشة والخوف والمقهى، وفي أمكنة وحالات وانفعالات يكتمها بحدّة، فهو غير راغبٍ في قول شيء عبر مَلمَح أو سلوك أو تصرّف أو قول (هو صامت دائماً)، لأنّ الصُور تقول وكفى. ومع أنّ في عينيه أو مشيته أو نظرته أحياناً ما يشي بقول أو بوح أو انفعال، فإنّ صمته الدائم ـ الذي يكسره هذه المرّة ليقول إنّه من الناصرة وإنّه فلسطيني، وسائق سيارة الأجرة في أميركا يكاد يُغمى عليه من شدّة الفرح أو الصدمة، فهذه المرة الأولى التي يلتقي فيها أحداً من بلدة المسيح، كما يقول لزوجته عبر الهاتف الخلوي ـ نموذجٌ تعبيري يغلب كلَّ قولٍ وبوحٍ وتأمّلات.
للفيلم عنوان إنكليزي: It Must be Heaven. عربٌ كثيرون يُترجمون العنوان إلى العربية، فهم غير منتبهين إلى أنّ إيليا سليمان غير راغبٍ في وضع عنوان عربيّ له. لكنّه، لعدم اطمئنانه إلى عناوين عربية تُوضع لفيلمه، خصوصاً أنّه رافضٌ لـ"لا بُدّ أنّها الجنّة" ("رمان الثقافية"، 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، يقول إنّ العنوان الأقرب إليه هو "إنْ شئتَ كما في السماء". هذه إحدى مصاعب المهنة ("العربي الجديد"، 4 مارس/ آذار 2020): ترجمة عناوين الأفلام إلى العربيّة.
هذا غير مرتبط بنقدٍ سينمائي. المُشاهدة تكفي لقولٍ ينبع من رؤية وانفعال وتواصل، من دون أنْ يُنزَّه القولُ عن النقد. متتاليات إيليا سليمان انشغالٌ بلغةٍ تذهب بعيداً في اختزال مسائل وحكايات بصُور مُكثّفة. صُوره تعكس وقائع حياةٍ راهنة بتفاصيلها وقسوتها وانقلاباتها وانفعالاتها.
أهذه هي سينما الجنّة، أم "مشيئة" السينما؟ إنّها، باختصار، مشيئة إيليا سليمان في "جنّته".
يستحيل توقّع ما سيصنعه إيليا سليمان لاحقاً. كلّ جديد قابل للانتظار، وكل انتظار ينتهي بصدمةٍ بهيّة إزاء ما يعتمل في ثنايا جديده من جماليات سينمائية لا تنضب. ومع نهاية كلّ فيلمٍ، يتساءل المُشاهِد: "هل سيتمكّن سليمان من صُنع جديد ساحر بعد؟". يأتي الجواب مع الجديد الساحر بعد وقتٍ، يطول هذه المرة إلى 10 أعوام، فـ"الزمن الباقي" مُنجز عام 2009. التصفيق الذي يملأ "صالة لوميير" في "قصر المهرجانات"، بعد العرض الدولي الأول لـ"إنْ شئتَ كما في السماء" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي (تنويه خاص)، لن يكون دليلاً على جمالية سينمائية فقط، بل تمهيداً لانتظار ما تحمله قدرات المخيّلة السليمانية من ابتكارات.
المشهد الافتتاحي والفيلم معاً يُشاهَدان ثانية عشية أحد الفصح الغربيّ. لكن الشوارع الخالية من ناسها في باريس، كما يلتقطها إيليا سليمان في جديده هذا، مُخيفة، لشدّة تطابقها مع زمن "كورونا". هذه ليست "نبوءة" سليمانية، بل رغبة في كشف المغاير للمتوقّع في مدينة مليئة بالجميلات، لكنها مضغوطة بالعسكر والفراغ واللامبالاة، وبأشياء كثيرة يختزلها سليمان في لقطات تُعبِّر عن ذاتها بذاتها. انتقاله إلى الولايات المتحدّة وعودته إلى فلسطين جزءٌ من مسارٍ يبدأه المخرج في الناصرة، التي يغوص في مسامها ونبضها وهوامشها أكثر فأكثر.
الجار الذي يحتسي العرق بكثرة، ويريد إحراق نفسه (الزمن الباقي)، يغرق في التمزّق الذاتي، مع تخيّلات تأخذه إلى الأسطوريّ والمبالَغ به لشدّة الخراب فيه (إنْ شئتَ كما في السماء). يستعين سليمان مجدّداً بـI Put A Spell On You، لكنْ هذه المرّة مع نينا سيمون (المرة السابقة مع ناتاشا أطلس في "يد إلهية"). يهيم في الشوارع والفراغ والوحدة والكأس والتأمّل والدهشة والخوف والمقهى، وفي أمكنة وحالات وانفعالات يكتمها بحدّة، فهو غير راغبٍ في قول شيء عبر مَلمَح أو سلوك أو تصرّف أو قول (هو صامت دائماً)، لأنّ الصُور تقول وكفى. ومع أنّ في عينيه أو مشيته أو نظرته أحياناً ما يشي بقول أو بوح أو انفعال، فإنّ صمته الدائم ـ الذي يكسره هذه المرّة ليقول إنّه من الناصرة وإنّه فلسطيني، وسائق سيارة الأجرة في أميركا يكاد يُغمى عليه من شدّة الفرح أو الصدمة، فهذه المرة الأولى التي يلتقي فيها أحداً من بلدة المسيح، كما يقول لزوجته عبر الهاتف الخلوي ـ نموذجٌ تعبيري يغلب كلَّ قولٍ وبوحٍ وتأمّلات.
للفيلم عنوان إنكليزي: It Must be Heaven. عربٌ كثيرون يُترجمون العنوان إلى العربية، فهم غير منتبهين إلى أنّ إيليا سليمان غير راغبٍ في وضع عنوان عربيّ له. لكنّه، لعدم اطمئنانه إلى عناوين عربية تُوضع لفيلمه، خصوصاً أنّه رافضٌ لـ"لا بُدّ أنّها الجنّة" ("رمان الثقافية"، 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، يقول إنّ العنوان الأقرب إليه هو "إنْ شئتَ كما في السماء". هذه إحدى مصاعب المهنة ("العربي الجديد"، 4 مارس/ آذار 2020): ترجمة عناوين الأفلام إلى العربيّة.
هذا غير مرتبط بنقدٍ سينمائي. المُشاهدة تكفي لقولٍ ينبع من رؤية وانفعال وتواصل، من دون أنْ يُنزَّه القولُ عن النقد. متتاليات إيليا سليمان انشغالٌ بلغةٍ تذهب بعيداً في اختزال مسائل وحكايات بصُور مُكثّفة. صُوره تعكس وقائع حياةٍ راهنة بتفاصيلها وقسوتها وانقلاباتها وانفعالاتها.
أهذه هي سينما الجنّة، أم "مشيئة" السينما؟ إنّها، باختصار، مشيئة إيليا سليمان في "جنّته".