الأكثر إرباكاً من قرار السحب ذاته، أن السلطة التي أمرت بسحب الرواية، الإثنين الماضي، هي الجهة التي استهجنت موقف "حكومة حماس" قبل أكثر من عشر سنوات حين أصدرت قرارها الشهير بسحب كتاب "قول يا طير" للباحثين إبراهيم مهدي وشريف كناعنة من المدارس والمكتبات تحت ذريعة احتواء الكتاب على ألفاظ خادشة للحياء العام.
ومن يعود إلى تلك الحادثة سيتذكّر إلى جانبها، بكائيات الجهة - التي منعت عبّاد يحيى اليوم- على حرية التعبير والحداثة، وترديدها وقتئذ أن: "البلد "فلسطين" تتعرض لما قيل عنه أيامها لموجة الأفغنة المتعمّدة"، أي أن حكومة حماس في قرارها منع "قول يا طير" تذهب في البلاد إلى النموذج الأفغاني. إذن ما الذي تغيّر الآن بالضبط؟
لا إجابات واضحة تقدّمها الجهات التي اتخذت قرار السحب حول ما حدث، إذ إن الدخول في دوامات التحرّي قانونياً "حول نصوص ومصطلحات مخلّة بالحياء والأخلاق والآداب العامة"، داخل الرواية، ثم الإصرار "أن هذا القرار لا يتنافى مع حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون" بحسب ما ورد في بيان النائب العام، لا يكتفي فقط بعدم تقديم إجابة واضحة وشافية للمتابعين المصدومين حيال السقطة الخطيرة في هذا السياق، بل يزيد الأمر غموضاً حول مستقبل الكتابة والثقافة والحريات العامة في هذا الجزء من فلسطين المحتلة، الواقع ضمن حكم السلطة الفلسطينية.
لا تتوقّف حدود غرابة القرار عند سحب الكتاب من الأسواق واستدعاء كاتبها وناشرها وموزعها، أمام غرابة من يعتقد، والآن تحديداً، في عصر السرعة والموجات الرقمية المتلاحقة، أنه يستطيع أن يمنع كتاباً من القراءة، وأن يمارس على القرّاء والمكتبات والكتّاب على حد سواء سطوة الملاحقة والمحاكمة والمنع!
وإلا كيف نفسّر لهذه الجهة دون غيرها، إعلانها الصريح دوماً وفي كل المناسبات أنها تقف إلى جانب حرية التعبير؟ بل وذهبت فيما هو أبعد من ذلك، حين أدانت الهجوم المسلّح على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية المعروفة بعدائها الشديد للمسلمين وسخريتها الدائمة من رموزهم الدينية.
لكن رواية "جريمة في رام الله"، وهي التي تذهب في معالجتها لبعض التشابكات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني من دون مواربة، وتستعرض جملة من التجارب الإنسانية من غير قشور ومجاملات، في حبكة روائية، لا يدّعي صاحبها أنه الأسبق إليها؛ تجربةً وكتابةً وشكلاً، قد أُخرجت عن سياقها، باقتباس هنا، وبتجريد لمضمون هناك، حتى وصل الأمر إلى المساس بشخص كاتبها بالتشهير حيناً والتهديد حيناً آخر، مما يدفعنا إلى التساؤل مرة أخرى: هل هذه هي الحريات العامة التي نسعى إليها وإلى صونها ومن الذي يمارس الأفغنة اليوم في المجتمع الفلسطيني وفي حياته الثقافية الجريحة؟
* كاتب فلسطيني/ رام الله