"هذه الرواية ليست عن الحرب، ولا عن الثورة.. هذه الرواية عن إيمان"، تقابلك هذه العبارة في مطلع الفصل الأخير من رواية "جدائل صعدة" للكاتب اليمني مروان الغفوري.
لكن الرواية تتحدث بالفعل عن الحروب التي مرت في صعدة، عن مليشيا الحوثيين، من دون أن تسميهم، وعن المخلوع علي عبدالله صالح، من دون أن تذكر اسمه، وعن مأساة البلاد التي تأكل أبناءها الحروب والكراهية، وعن الشباب الذين يقودهم رجال الدين إلى مصارعهم، وأخيراً، وأولاً كذلك، عن اليمنيات اللاتي يعانين في صمت جراء كل هذه المآسي وجراء حصار التقاليد والأفكار القديمة.
الرواية التي صدرت في بيروت العام الماضي، عن دار الآداب، في 239 صفحة، يتبادل المؤلف وفتاة يمنية من صعدة لعب دور الراوي فيها، الرواية عن فتاة؛ إيمان، التي سنكتشف فيما بعد أنها زينب، خرجت من قريتها بغرض العلاج من ورم أثقل بطنها فوصمها شيخ قريتها "الشريف" بالخاطئة، وادعى عليها، من دون دليل، أنها حملت سفاحا، فمنعت من العودة خشية الموت.
لكن هذا التلخيص المخلّ، لا يعطي صورة حقيقية عن الرواية، فالعمل يجتهد في تقديم صورة بانورامية عن المجتمع في شمال اليمن، في صعدة حيث ظهر الحوثيون لأول مرة، عن التنوع الذي أجهضه التطرف، وعن التطرف الذي ازدهر مع التهميش، وعن التهميش الذي قدم وقودا للحروب المتوالية، وعن أثر هذه الحروب على المجتمع الجبلي المغلق.
لا تمل الحرب من الظهور في صعدة، أو كما تقول إيمان/زينب: "عادت الحرب، ثم غابت. لكنها سرعان ما عادت من جديد. إنها الرحالة الوحيد الذي يكتشفنا كل سنة، ثم يهيل علينا التراب ويمضي لبعض الوقت".
تروى أغلب القصة على لسان النساء، وتتتبّع قصصهن، فمأساة طرد اليهود من شمال اليمن على يد المتعصبين القبليين تمثلها "شمعة"، الصديقة اليهودية للبطلة، التي عاشت عمرها البالغ سبعين عاما في قريتها القابعة في جبال شمال اليمن.
في الرواية لا تعرف "شمعة" الكراهية، التي ربما قصد المؤلف استخدام هذا الاسم لها ليشير إلى النور الذي تجلبه الثقافات المختلفة، فهي تقبل كل الأنبياء وتحب أطفال القرية القريبة، من المسلمين، وتحب الحكايات، ولكنها طردت في النهاية مثل كل سكان قريتها، بما في ذلك المدرّس الذي تحول من المذهب الزيدي إلى المذهب السني.
تظهر "شمعة" في الرواية كضحية مزدوجة لقبيلتها ولجيرانها، قبيلتها رفضت أن تتزوج غير يهودي، رغم عدم ظهور العريس اليهودي، وجيرانها انقلبوا فجأة على "اليهود" و"الوهابيين" فطردوها من بيتها.
أحد آثار الحروب المتوالية التي تظهر في الرواية هي اندلاع براكين الكراهية ضد المختلفين، فالعدد الصغير من الشبان الذين تحولوا من المذهب الزيدي إلى المذهب السني، على النموذج الوهابي، أصبحوا مركزا لكراهية متزايدة في صعدة، أدت إلى موت العديد منهم.
يشير الكتاب إلى هؤلاء الشبان دائما بنعت "الوهابي"، المدرس الوهابي؛ الشاب الوهابي.. إلخ، هم فقراء في الرواية التي تشير إلى أن سفرهم وعملهم في السعودية، القريبة جدا من صعدة، كان وراء تحولاتهم، ولكنها لا تشير إلى أي سبب لاندلاع الكراهية بينهم وبين جيرانهم السابقين سوى هذا التحول.
لا تقدم الحرب أي خير لإيمان/زينب في الرواية، ويعود منها أخوها الوحيد بذكريات سيئة، تجعله يعزف عن خوضها مجددا، حيث انتهى إلى رأي مفاده: في الحرب "نقتل أناسا لا نعرفهم، وينتصر آخرون لا نعرفهم".
ولكن حسن الذي سأم الحرب، لم يفعل ذلك لخشيته الموت، فقد ضحى بحياته، في الرواية، بالفعل في ثورة الشباب عام 2011؛ اندلعت هذه الثورة يوم سقوط الرئيس المصري حسني مبارك في 14 فبراير/شباط، كان سقوط مبارك زلزالا، لم يتوقف حتى الآن، هز العروش العربية كلها، وامتدت آثاره في كل المنطقة.
تتحدث إيمان/زينب عن الثورة في روايتها قائلة: "سيكون من الجيد أن أخبر الناس الذين سيقرأونها بعد مائة عام من الآن أنني أكتبها في العام 2014، بعد ثلاثة أعوام من الثورة. يقول الناس في هذه الأيام إنها لم تكن ثورة حقيقية. عندما يموت هؤلاء الناس سيأتي آخرون يقولون إنها لم تكن ثورة وحسب، بل كانت دراما تاريخية ساحرة".
على مدى صفحات الرواية؛ تتعرض صعدة لظلم صنعاء ويتعرض أهل صعدة لاستغلال رجال الدين في جبالهم، وتتعرض فتيات صعدة لحصار وعسف "رجالهن" من الأهل والقبيلة، فلا الفتاة تقرر بمن تلتقي ولا من تتزوج ولا أين تحيا.
تكون المرأة في صعدة محاصرة داخل منزلها، وداخل ملابسها إن خرجت، تصف الرواية غطاء الرأس هناك "نحن نسميه في صعدة "الشيلة" وهي قطعة سميكة تضعها المرأة على رأسها ووجهها.. حتى العينين، كما في صنعاء. في صعدة لن ترى عينين ولن يكون بوسعك أن تفرق بين منظر امرأة في العشرين أو في الخمسين".
تتحدث الرواية عن "المجاهدين" تارة وعن "المسلحين" تارة أخرى، يقودها القلق من حقيقة هذا الحشد من أجل الحرب والموت، يحتشد الشبان للحرب مدفوعين بضغط القبيلة ورجال الدين، ويقودهم الخوف الوجودي من حكام صنعاء الذين أرسلوا لهم قوافل الدبابات ولم يرسلوا القوافل الطبية.
تروي زينب التي تحولت إلى إيمان مع خروجها من قريتها حكايتها وحكاية صعدة، وحكاية اليمن كلها، أو كما يقول الراوي: "إن قراءك لن يصدقوا أنك فتاة نشأت في صعدة. سيفهمون قصتك مثلي: إنها الباب الذهبي لليمن كله".
(مصر)