"جاموسة" العرب المستحيلة

05 اغسطس 2018
+ الخط -
كم مرّة يتعين على العرب أن يدفعوا ثمن الحرية، من دون أن يحصلوا عليها؟
متعبٌ هذا السؤال ودامٍ، كحجم الدماء التي سالت، وما تزال، طوال سنوات. ولا أعتقد أن في وسع أحدٍ أن يجيب عليه، باستثناء ذلك الحصان الذي ما يزال يعدو لاهثًا في مضمار سباق طويل، بانتظار أن يصل إلى خط نهايةٍ يحرّكه أحدهم كلما اقترب منه.
لماذا لا تكون الحرية سلعةً قابلة للبيع، مثل غيرها من البضائع، وإن كان ثمنها الدم. فلو كانت كذلك، لكان من حق الشعب المصري، مثلًا، أن يتقدّم إلى بائع الحريات غاضبًا، وهو يقسم أنه دفع حصته كاملةً من ثمن الحرية في ميادين رابعة العدوية والنهضة والتحرير، بل إن السعر فاض عن آلاف القتلى والجرحى، سواء في ثورة 25 يناير 2011 التي أسقطت حسني مبارك، أو في الثورة المضادّة التي أعادت حكم العسكر في 3 يوليو/تموز 2013، من دون أن يغفلوا عن ثورة الاستقلال عن التاج البريطاني، وثورة الضباط الأحرار، فضلًا عن ثورات شعبية أخرى كثيرة أيام الرئيس أنور السادات، وكلها تصبّ في رصيدهم الذي ادّخروه ليوم الحرية.
ينسحب الأمر نفسه على شعوب عربية أخرى، قايضت الدم بالهباء، كالليبيين واليمنيين، فيما يتصدّر السوريون المشهد كاملًا بالثمن الفادح الذي دفعوه، وما يزالون، من دم أبنائهم ولاجئيهم ودمار بلادهم، وكأنهم يشترون بدل الحرية مزيدًا من الاستبداد والطغيان، فيما الحصان يلهث والنهاية تبتعد أزيد وأزيد. وفي المقابل، نرى شعوبًا انتزعت حرّيتها بنصف الثمن الذي دفعناه أو أقل حتى، بل إن بعضهم لم يدفع قطرة دم واحدة لقاء حريته، فلماذا على العرب وحدهم أن يدخلوا الحرية من "أوجع" الأبواب؟
على الأرجح أن البائع إياه قد اطّلع على تلك القصة القصيرة لكاتب مصري، بطلها مزارع فقير قرّر أن يبحث عن عمل في المهجر؛ لتأمين ثمن "جاموسة" يقتنيها لضرورات عمله في "الغيط"، بعد أن فشل في تحقيق هذا الحلم في وطنه، غير أن الفشل ظل حليفه حتى في المهجر؛ إذ كلما استطاع جمع ثمن "الجاموسة" ارتفع سعرُها؛ فيقرّر البقاء سنة أخرى؛ وليعود، في آخر المطاف، إلى وطنه عجوزًا لا يملك دفع ثمن الجاموسة الجديد.
من جهته، يحاول البائع إياه أن يطبّق ما قرأه على زبائنه من الشعوب العربية التي قرّرت أن تبتاع حريتها بأي ثمن، لكنها في كل مرة تكتشف أن الثمن صار أغلى وأفدح مما كان عليه، قبل أن تبدأ بثوراتها، فتعود ثانية لتحاول توفير حصتها الجديدة من الدم الذي ينبغي أن تدفعه لقاء الحرية المشتهاة.
ربما لا تكون الحرية سلعةً في متجر، ولا العرب أحصنةً تطارد نهايات متحرّكة، غير أني على قناعة بأن ثمة أيديَ خفية تؤدي هذه الأدوار بمكر، فهناك من يتعمّد أن يجعل ثمن الحرية العربية أفدح بكثير مما يعتقد العرب، لإيصالهم إلى نقطة اليأس، وجعلها خط النهاية الوحيد أمامهم، وهنا سيظهر متلاعبون ماكرون كثيرون، ومرتعدون خوفًا من بلوغ العرب خط الحرية.
وتطول قائمة الماكرين كثيرًا؛ لأنها تضم أطرافًا عديدة ترى في هذه الحرية تهديدًا لوجودها، لا لمصالحها فقط، وفي مقدمتها إسرائيل التي تعرف، جيدًا، أن الحرية العربية لن تسمح لأحد بالتنازل عن شبر واحد من فلسطين، وتشاطرها الرأي الولايات المتحدة التي ربطت وجود إسرائيل بوجودها، من فرط الدعم والمؤازرة لهذا الكيان.
أما الماكر الأخبث فيتمثل في أنظمة استبداد قابعة وراء ستار النفط والعار التي تدفع مليارات من أجل تحريك خط النهاية، كلما اقتربت الجماهير العربية منه، فقد جعلت من ثورات الربيع العربي قضيتها المركزية، وعدوّها الأول، بدليل ما فعلته في سورية، وما تفعله حاليًا في اليمن.
ليس في وسعي أن أعرف متى سيجمع العرب ثمن حريتهم، في خضمّ كل هؤلاء الخصوم المتربّصين بهم، غير أنني على قناعةٍ بأن الحرية تستحق أي ثمن.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.