في روايتها الثانية "ثابت الظلمة" الصادرة عن "دار الشهاب"، تخوض الكاتبة الجزائرية، أمل بوشارب (1984)، في مجال الخيال العلمي. ما هي إلا بضع صفحات من المتن، حتى يدرك القارئ أنَّ هذا القالب الشعبي ليس سوى حيلةٍ لطرق مواضيع أكثر عمقاً وإثارة للجدل، كما في روايتها الأولى "سكرات نجمة" (2015) التي صيغت في قالب بوليسي.
تقوم بنية التشويق في النص على صراع شخصيات من عوالم متضاربة؛ حيث تدور الحبكة السردية، في مجملها، حول اكتشاف مصدر محتمل لتوليد طاقة جديدة في منطقة الهوقار بالصحراء جنوب الجزائر، فيسعى ملياردير أوروبي يُدعى هينريك فورتسنبورغ لاستغلالها بشكل حصري، من خلال عقد صفقة مع نزيم خنخان، الابن النافذ لأحد الوزراء الجزائريين، لتظهر ثيمة الفساد وارتباطها بكواليس السياسة.
من هنا تبني الرواية ارتباطها بالواقع ثمّ نقده؛ حيث تستثمر الكاتبة في وقائع حقيقية؛ ذلك أن إهدار مقدَّرات البلد والفساد اللذين طاولا الطبقة السياسية الجزائرية هما من ضمن ما دفع الشعب الجزائري إلى الخروج احتجاجاً من أكثر من أربعة أشهر. ومن ناحية أخرى، فإنّ المعلومات المركزية التي يحوم حولها الحدث الروائي مأخوذةٌ من مؤلّفات علمية ودراسات أنثروبولوجية، إضافة إلى مقالات صحافية موثّقة من جرائد عالمية.
على إثر بدء عمليات التنقيب في الهوقار، تستنفر المخابرات الجزائرية أجهزتها بأوامر من رجل الظل الغامض داخل المؤسّسة العسكرية؛ حيث تظهر ملامح حرب قوية بينه وبين الوزير النافذ خنخان، وهي جزئيةٌ اشتغلت فيها الكاتبة ضمن اتجاهَين: النقد السياسي، وتفكيك ثنائية السياسي والعسكري المطروحة منذ الثورة التحريرية وإلى اليوم.
ثمّ تنتقل بوشارب إلى معالجة ناقدة للمشهد الإعلامي الجزائري، عندما يتفجَّر صراع بين المصالح الاقتصادية ممثّلةً في فورتسنبورغ، والمصلحة العلمية متمثّلةً في رئيس بعثته فيرو، ما يدفع الأخير لمحاولة تسريب نتائج الأبحاث للصحافة المحلّية عن طريق مهدي، وهو أحد أبناء الصحراء. وهنا، تبدأ حالةٌ من التكالب على المناصب الوظيفية لدى صحافيّي جريدة "الحق" الكبرى، فهل سينجح مهدي، العامل البسيط في ورشة في الجنوب الجزائري، في إيصال صوته إلى العاصمة ومراكز القرار فيها؟
في "لذّة النص"، يفرّق رولان بارت بين نوعَين من النصوص: أحدهما للذّة، وهو الهادئ الذي يأتي من صلب الثقافة، ويظلُّ مخلصاً لها إلى نقطة النهاية، وآخر للمتعة، شبقيٌ إلى حدّ التحرر، وحرّ بانحراف يزعزع ثبات أذواق قارئه وقيمه، ويقلق علاقته باللغة وبالثقافة في آن. وحدها ذاتٌ لا تنتمي إلى زمانها تلك التي تمسك بالنصين معاً في حقل واحد، حقل الرواية هنا. وعلى نحو متناقض، تشارك النزعات اللذية في كلّ ثقافة وتشرع في تحطيم ذات الثقافة، مستمتعةً بمتانة أناها، أنا الكاتب التي "تقول للشيء: كن! فيكون".
على هذا النحو، ينضبط نص "ثابت الظلمة" وفق مقولة بارت. طارحاً حبكته عبر خيوط منفردة، تشتبك بقلق وغموض على طول عملية النسج السردية. على هذا النول، وهو اختيار يسم صاحبة النص بالجرأة، تلتزم بوفائها لتقليد الكتابة الملحمية شكلاً، وتنقضه إذ تجرّده من شاعرية اللغة، وتدفع به إلى خيانة موقعه التاريخي مضمونًا؛ بدلالة صراع الفرد على صراع الطبقة، أي عكس الملحمة القديمة التي احتفت بالأمجاد فرديةً وحدها (على حد اتفاق كل من ماركس وهيغل).
هذا الاختيار/ الشكل، من ناحية أخرى، يتّسق ومبدأ الحوارية الذي يلتزم به النص، محقّقاً استقلاليته واكتماله، تنطق داخله كلّ شخصية بحرية كاملة، في السر والعلن، تحت عين الكاتبة التي تلتزم الحياد تجاه كل صوت. تنتظم هذه الأصوات في شكل مربك، إذ لا تفصل بينها حدود مشهدية صارمة، تتداخل محدثة حالة من القلق لدى قارئها؛ هذا القلق الضروري لوجود الاستثارة التي تستفزها قصة العمل.
وصولًا عند هذا الحد المقتضب من بسط معالم القصة، أي في نزوعها إلى الإجابة عن ثنائية الأسطورة/ العلم، وهو نزوع فلسفي منذ نشوء الفلسفة، لا تتّخذ الكاتبة بالمقابل صفة المنظّر فيه. في داخل النص، الكل يمتزج، يتشابك، يتنافى ويتطابق، ينطق بما يحيل على القوّة الهدّامة التي يمتلكها المتن ككل. هدّامة للثنائيات البنيوية، هكذا تطرح الرواية نظرتها، أي بفتح مجالٍ لا الشمال شمال فيه تماماً، ولا الجنوب جنوب.
ومن خلال هدم هذه الثنائية النمطية، تنكسر الحدود بين العالمين، عالم المثل المتعالي وعالم الدنس المادي. تطلق الرواية العنان لجدل هو المحرّك لعملية السرد فصلًا فصلًا. في هذا الصدد، تجيّش أمل بوشارب نصوصاً قديمة، من الأساطير الشعبية ومن النصوص الفلسفية الأولى (محاورة تيمايوس لأفلاطون)، واضعة إيَّاها وجهاً لوجه؛ تبيانٌ للمشترك الثقافي الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى تقحمها في المحاكمة الأم لميتافيزيقا المركزية الثقافية والمعرفية. إذ في "ثابت الظلمة"، ليس ثمّة مركز واحد بل مراكز، ولا هامش واحد بل هوامش.
بم تصطدم أمل بوشارب؟ بما سماه ماركس وهيغل: فكرة الكلية. هي تدرك كونها فكرة سياسية، تصلح بدقّة لمعالجة الحلم الميتافيزيقي للواحد، هكذا تستقيم لتفكيكها على مستويَي النص؛ بنيةً وسرداً. ومنه تخلص إلى معالجتها لثنائيات أخرى، لها ارتباط هذه المرة بوطنها الأمّ، الجزائر؛ إذ تفكّك خيوط الممارسة السياسية والاجتماعية، في تناقضاتها المؤسّسة، بين السياسي والعسكري، السلطة والشعب، الحداثي والتقليدي، وهي عناصر ترسم الشرط الواقعي للمتن.
واقعي، لا كسرد وقائع تدخل في خانة الحاصل فعلاً، بل في ضبط الترابط الشامل الموضوعي للواقع، والإحاطة بجميع جوانب الموضوع الضرورية للسيطرة على هذا الترابط (جورج لوكاتش). بلغة أبسط، تحيل أمل بوشارب المظاهر المفكّكة للعلاقات الموضوعية ترابطاً سردياً هو حبكة الرواية.
والجدل الذي يأخذ موقعاً محورياً داخل عملية السرد في رواية "ثابت الظلمة"، يقفل بالتالي دائرة الكتابة، دائرة القراءة ودائرة اللذّة. ينتهي النص كما بدأ، محافظاً على قلقه وصداميته، ديمقراطيته وصراعه الداخليين، مفصحاً عن لا نهائية من المتع التي يمكنها أن تنشأ بين قارئ ونصه.
* كاتب من المغرب