يبدأ فيلم "تدفق الإنسان Human Flew" الوثائقي، (إخراج الصيني "آي وي وي" بالتعاون مع منظمة العفو الدولية) بمشهد بعيد لبحر هادئ حيث يلوح قارب صغير.
للوهلة الأولى يغمرنا إحساس وشعور بالسلام والطمأنينة. ثم سرعان ما ينقلب الأمر، مع لقطاتٍ قريبة متتالية، إذ يسارع منقذون ومسعفون بتقديم ألبسة وسوائل مدفئة لرجال ونساء وأطفال مذعورين ومنهكين. هكذا نرى البرد يعض الوجوه، امرأة على وشك وضع مولودها. لقد وصلوا للتو من تركيا إلى جزيرة ليسبوس اليونانية بعد رحلة خطرة ومغامرة. إنهم لاجئون فارون من سورية والعراق وإيران، وغيرها من الدول التي تلتهم مجتمعاتها حروبٌ كارثية وأوضاع اقتصادية وسياسية خانقة.
ربما يكون المدخل إلى الفيلم عادياً، فمثل هذه المشاهد والصور سبق أن تناقلتها المحطات التلفزيونية ووكالات الأنباء، كما تحدثت عنها تقارير صحافية. لكن المخرج الصيني (وهو ناقد ثقافي ونحات، عانى وضعاً شبيهاً في بلده بعد نفيه ثم استقراره في برلين لاجئاً منذ عام 2015) قام بجولات طويلة على 23 بلداً، مع طاقم فني (ضم 200 شخص) منها اليونان وتركيا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق وألمانيا وفرنسا وكينيا وجنوب شرق آسيا، حتى بلغ الحدود الأميركية المكسيكية، مسلطاً الضوء على نحو ناقد وحميم ومؤلم على أزمة إنسانية مروعة لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية!
يتابع الفيلم هنا وهناك الناس الذين اضطروا إلى الهرب، وبدأوا بتدفق لا هوادة فيه، ما يجعل الصورة المرئية مذهلةً وتشير مراراً وتكراراً إلى أن عصرنا هو عصر لهاث مستمر وفرار جماعي بلا أفق. هناك تناقض ملموس فيما يقدمه المخرج، ربما عن عمدٍ: نجد مثلاً النظرة الرومانسية المستهلكة أو الحيادية الباردة من خلال المناظر البعيدة التي تمنح نوعاً من جمال بصري دون تضامن مع ضحايا متروكين لوحدهم، إذ لجأ إلى تقنية التصوير من خلال طائرة بدون طيار، ما يجعلنا نتذكر القصف والحرب أيضاً، فيما نبقى بعيدين مثل متفرجين لامبالين! هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد المشاهد القريبة والمرافقة لتحرك اللاجئين وتصادمهم وحياتهم اليومية وتعارفهم ومشاكلهم وخصوماتهم وإحباطهم، عدا المسير البري الطويل بين دولة وأخرى في ظل برد قارس، وحواجز أسلاك شائكة، وذلك عبر الصور التي اعتمدت على كاميرا صغيرة أظهر المخرج نفسه فيها كما لو أنه واحد من هؤلاء الذين تخلى عنهم الجميع. إنها صور يصح القول إنها خشنة صادمة وحساسة تلامس العين على نحو مختلف. كذلك يعتمد المخرج على أرقام وإحصائيات تظهر كشريط أخبار، وهو بذلك يربط الجانب الخبري بالحدثي ويخلطهما معاً، مقدماً الواقع الفعلي والحقيقي. كذلك يلجأ إلى مقاطع لشعراء وكتاب، تعزز وجهة نظره القائلة بوحدة المصير الإنساني.
وفي الوقت الذي تواصل فيه العولمة توسيع نطاق الترابط الدولي، يتقلص عالمنا الإنساني منكمشاً على عزلة متنامية وشعور فادح بالعجز والإحباط. من الواضح أن العديد من هؤلاء اللاجئين، هم أشخاص مستقلون جديرون بحياة أفضل، لكنهم أُجبروا على الخروج من بلدهم بسبب الحرب والمجاعة. نلحظ تفاعلاً أخوياً بين المشردين هؤلاء، نرى رجلاً محطماً يروي غرق أفراد من أسرته، باكياً يتذكرهم فهم لا يغادرون أحلامه. نشعر بغضب المتظاهرين الذين ينددون بصفقة وافقت عليها تركيا على استعادة لاجئين مقابل دعم مالي أوروبي.
ويبدو التطور التقني مؤثراُ حيوياً، إذ مكَّن كاميرا المخرج من التحرك مباشرة نحو الأرض من ارتفاع مذهل في مخيم للاجئين يشبه شبكة لاإنسانية عندما يلمسها من فضاءٍ ناءٍ. ويوجد مشهد لا يُنسى في مبنى ألماني كبير حيث يعيش اللاجئون، فيما يبدو وكأنه قاعة مسرح، تتألف من غرف صغيرة ذات جدران رقيقة، بلا سقف.
يقول الصينيون إن صورة واحدة تعادل ألف كلمة، وما فعله "وي" كان جمعاً لافتاً وربطاً ماراثونياً بين مئات ساعات التصوير والمقابلات لقول شيء واحد: اللجوء ليس حقاً سياسياً، إنه قبل ذلك واجب إنساني، والقضية تجاوزت السياسة وصفقات الأقوياء، إنها محنة كونية على أساس اختبارها وعلاجها ربما يتوقف مستقبل الأجيال القادمة.
اقــرأ أيضاً
للوهلة الأولى يغمرنا إحساس وشعور بالسلام والطمأنينة. ثم سرعان ما ينقلب الأمر، مع لقطاتٍ قريبة متتالية، إذ يسارع منقذون ومسعفون بتقديم ألبسة وسوائل مدفئة لرجال ونساء وأطفال مذعورين ومنهكين. هكذا نرى البرد يعض الوجوه، امرأة على وشك وضع مولودها. لقد وصلوا للتو من تركيا إلى جزيرة ليسبوس اليونانية بعد رحلة خطرة ومغامرة. إنهم لاجئون فارون من سورية والعراق وإيران، وغيرها من الدول التي تلتهم مجتمعاتها حروبٌ كارثية وأوضاع اقتصادية وسياسية خانقة.
ربما يكون المدخل إلى الفيلم عادياً، فمثل هذه المشاهد والصور سبق أن تناقلتها المحطات التلفزيونية ووكالات الأنباء، كما تحدثت عنها تقارير صحافية. لكن المخرج الصيني (وهو ناقد ثقافي ونحات، عانى وضعاً شبيهاً في بلده بعد نفيه ثم استقراره في برلين لاجئاً منذ عام 2015) قام بجولات طويلة على 23 بلداً، مع طاقم فني (ضم 200 شخص) منها اليونان وتركيا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق وألمانيا وفرنسا وكينيا وجنوب شرق آسيا، حتى بلغ الحدود الأميركية المكسيكية، مسلطاً الضوء على نحو ناقد وحميم ومؤلم على أزمة إنسانية مروعة لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية!
يتابع الفيلم هنا وهناك الناس الذين اضطروا إلى الهرب، وبدأوا بتدفق لا هوادة فيه، ما يجعل الصورة المرئية مذهلةً وتشير مراراً وتكراراً إلى أن عصرنا هو عصر لهاث مستمر وفرار جماعي بلا أفق. هناك تناقض ملموس فيما يقدمه المخرج، ربما عن عمدٍ: نجد مثلاً النظرة الرومانسية المستهلكة أو الحيادية الباردة من خلال المناظر البعيدة التي تمنح نوعاً من جمال بصري دون تضامن مع ضحايا متروكين لوحدهم، إذ لجأ إلى تقنية التصوير من خلال طائرة بدون طيار، ما يجعلنا نتذكر القصف والحرب أيضاً، فيما نبقى بعيدين مثل متفرجين لامبالين! هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد المشاهد القريبة والمرافقة لتحرك اللاجئين وتصادمهم وحياتهم اليومية وتعارفهم ومشاكلهم وخصوماتهم وإحباطهم، عدا المسير البري الطويل بين دولة وأخرى في ظل برد قارس، وحواجز أسلاك شائكة، وذلك عبر الصور التي اعتمدت على كاميرا صغيرة أظهر المخرج نفسه فيها كما لو أنه واحد من هؤلاء الذين تخلى عنهم الجميع. إنها صور يصح القول إنها خشنة صادمة وحساسة تلامس العين على نحو مختلف. كذلك يعتمد المخرج على أرقام وإحصائيات تظهر كشريط أخبار، وهو بذلك يربط الجانب الخبري بالحدثي ويخلطهما معاً، مقدماً الواقع الفعلي والحقيقي. كذلك يلجأ إلى مقاطع لشعراء وكتاب، تعزز وجهة نظره القائلة بوحدة المصير الإنساني.
وفي الوقت الذي تواصل فيه العولمة توسيع نطاق الترابط الدولي، يتقلص عالمنا الإنساني منكمشاً على عزلة متنامية وشعور فادح بالعجز والإحباط. من الواضح أن العديد من هؤلاء اللاجئين، هم أشخاص مستقلون جديرون بحياة أفضل، لكنهم أُجبروا على الخروج من بلدهم بسبب الحرب والمجاعة. نلحظ تفاعلاً أخوياً بين المشردين هؤلاء، نرى رجلاً محطماً يروي غرق أفراد من أسرته، باكياً يتذكرهم فهم لا يغادرون أحلامه. نشعر بغضب المتظاهرين الذين ينددون بصفقة وافقت عليها تركيا على استعادة لاجئين مقابل دعم مالي أوروبي.
ويبدو التطور التقني مؤثراُ حيوياً، إذ مكَّن كاميرا المخرج من التحرك مباشرة نحو الأرض من ارتفاع مذهل في مخيم للاجئين يشبه شبكة لاإنسانية عندما يلمسها من فضاءٍ ناءٍ. ويوجد مشهد لا يُنسى في مبنى ألماني كبير حيث يعيش اللاجئون، فيما يبدو وكأنه قاعة مسرح، تتألف من غرف صغيرة ذات جدران رقيقة، بلا سقف.
يقول الصينيون إن صورة واحدة تعادل ألف كلمة، وما فعله "وي" كان جمعاً لافتاً وربطاً ماراثونياً بين مئات ساعات التصوير والمقابلات لقول شيء واحد: اللجوء ليس حقاً سياسياً، إنه قبل ذلك واجب إنساني، والقضية تجاوزت السياسة وصفقات الأقوياء، إنها محنة كونية على أساس اختبارها وعلاجها ربما يتوقف مستقبل الأجيال القادمة.