"بورتريه" عن جحيم المكسيك

11 ديسمبر 2017
إفراردو غونزاليس (فيسبوك)
+ الخط -
يختار المكسيكي إفراردو غونزاليس (1971)، في فيلمه الوثائقي الجديد "حرية الشيطان" (2017، 74 د.) ـ المُشارك في برنامج "بانوراما السينما الدولية"، في الدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ أسلوباً بسيطاً وتقليدياً وعادياً، كي يفتح الشاشة الكبيرة على عالمٍ مليء بالعنف والقسوة والهوس بالتعذيب والقتل، وعلى شخصياتٍ متورّطة في ثنائية "الجلاّد ـ الضحية"، وعلى أسئلة مرتبطة بفعل الجريمة والقتل، وثقافة العنف، ووجع الموت، ومعنى الغفران.

والأسلوب ـ إذْ يعتمد على عددٍ كبيرٍ من الأفراد، المنتمين إلى أحد طرفي النزاع (قتلة، وأقارب الضحايا)، الذين يظهرون أمام كاميرا ماريا سيكّو مرتدين أقنعة متشابهة الشكل واللون ـ يذهب بعيداً في تفكيك اجتماعٍ مكسيكي مبنيّ على سطوة عصابات التجارة بالمخدّرات، وعلى مواجهة الشرطة لمنضوين فيها، وعلى تماهي بعض عناصر الشرطة بالأفعال الجُرمية لرجال العصابات أنفسهم، في لعبة دموية لن يكون المنتمون إلى العصابات، وحدهم، ضحاياها، بل أقارب لهم، سينتقل بعض الأحياء بينهم إلى واجهة المشهد، كشهودٍ على التمزّق الحادّ في البنيان الاجتماعي للمكسيك، خصوصاً أن الصراع بين العصابات والشرطة، في الأعوام الـ5 الفائتة على الأقلّ، مُسبِّب لمقتل 100 ألف شخص. لكن، عندما يُضاف إليهم أطفال المقتولين وزوجاتهم وأزواجهم وأهاليهم وأصدقائهم، فإن الرقم يرتفع إلى نحو 400 ألف.
تقارير مختلفة تُشير إلى أن إحصاءات كهذه تبقى "مجرّدة"، و"الأخبار المروّعة"، المتعلّقة بهذا الصراع تحديداً، التي "تستيقظ المكسيك، صباح كلّ يوم، على وقعها"، تُعتَبر جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للمكسيكيين. لذا، فإن "حرية الشيطان" يأتي في سياق بحثٍ، سينمائي وإنساني وأخلاقي وثقافي، في حالة عامّة، تتحوّل إلى نمط عيش، أو إلى سلوك حياتي للعلاقات، أو إلى قواعد يُفترض بها أن تُحصِّن الناس من رداءة اليوميّ، وقبحه وجنونه وخرابه المتنوّع.
أسلوب عادي لقراءة معمّقة في أحوال تلك البيئة المنهارة. والقراءة تلك مروية على ألسنة الجميع: أقارب أناسٍ مقتولين في ذاك الصراع، وأفراد عصابات يحكون عن أفعالهم الجرمية، وعن مشاعر وأحوال وخيبات ورغبات. وهذا كلّه مُغلَّفٌ بتلك الأقنعة، التي تُخبّئ خلفها ملامح وانفعالات، مع أن بعض المُشاركين في القول يعجزون عن إخفاء دمع يُذرفونه، فترتعش نبرات أصواتهم، وتعكس حركاتهم شبه الجامدة شيئاً من توتر أو ارتباك أو خوف أو قلق أو غضب. وإذْ يرى البعض أن الاستعانة بالأقنعة يهدف إلى إخفاء هويات الأفراد، الموافقين على الجلوس أمام إفراردو غونزاليس؛ فإن استخدامها قادرٌ على أن يكون لعبة سينمائية، ترتكز على ثنائيات القهر والسلطة، أو الضحية والجلاّد (بعض القتلة مُعلَّقٌ في الحدّ الفاصل بين ماضٍ يريد العودة إليه، وغدٍ مرتبط بأفعال دموية في راهنٍ مُثقل بالدمار الذاتي والروحي والنفسي، من دون التغاضي عن بعض آخر غير معنيّ بتلاوة "فعل الندامة")، أو الكاميرا والعين، أو المتخيّل والواقع (إذْ ينعدم كلّ اختلافٍ بينهما، في لحظات عديدة، لشدّة ما يُقدِّمه الواقع من وحشيةٍ، يعجز المتخيّل، أحياناً، عن ابتكار مثيلٍ لها).
سيدة واحدة فقط تخلع قناعها في اللحظات القليلة السابقة على انتهاء "حرية الشيطان". يظهر وجهها المتألّم والحزين والدامع، فتبتسم ابتسامة تائهة بين ثقل البوح وجنون المرويّ وخراب الواقع. تتواصل الكاميرا معها للحظات صامتة، كأن الهدوء ـ هنا ـ تأمّلٌ إضافيّ في هذه الفظاعات، التي تولِّد أسئلة إضافية عن معنى الغفران والثأر، وعن معنى الصفح والسعي إلى الانتقام. فالمجرمون يتوقون إلى خروجٍ "آمن" من أقنعتهم، فيبدون خلفها كأنهم يُدركون وجعاً ما إزاء جرم يرتكبونه. والضحايا (أياً تكن صلة القرابة بينهم وبين القتلى) يُعلنون ـ بين كلماتهم ـ امتثالهم أمام لعنة الموت، فينتفضون ـ بغالبيتهم ـ على كلّ مسامحة وعفو.
لن يكون "حرية الشيطان" دعوة سينمائية إلى تفهّم إنساني مع قتلة ومجرمين، أو تبريراً لفعل جُرميّ، أو دفاعاً عن بوحٍ ذاتيّ، أو تقديساً لضحايا عنفٍ مرفوض. إنه فيلم وثائقي سينمائي بامتياز، يُشكِّل المونتاج فيه (بالوما لوبيز كارّيلّو) مدخلاً بصرياً إلى عوالم متداخلة فيما بينها: الجريمة وآثارها، الحالة وارتباكاتها، البوح ومواجعه، الاعتراف وقسوة اختباراته. في حين أن الصوت (برنات فورتيانا) والموسيقى الأصلية (كينكاس مورييرا) يتكاملان معاً في إعادة رسم المشهد القاسي والعنيف برمّته، عبر كلمات وانفعالات وأقوالٍ.

خلاصةٌ أخيرة تختزل الجماليات السينمائية والدرامية والثقافية لـ"حرية الشيطان"، تقول عنه إنه "بورتريه خاص بمجتمع يقوده الخوف وعدم الأمان المطلق". ذلك أن التقطيع الفني يضع اعترافات الأفراد المختارين في سياقٍ بصري يُوازن بين الأمكنة المغلقة، حيث تُتلى الاعترافات تلك، والجغرافيا الأوسع، الشاهد الفعلي على خراب بلدٍ وبيئة واجتماع.

المساهمون