12 نوفمبر 2024
"بوديموس" في تونس
شهدت إسبانيا في مايو/أيار 2011 حراكاً شعبياً واعتصامات متتالية للمطالبة بالإصلاح السياسي، والتصدي للفساد، وتطور هذا الحراك، ليتحول إلى تيار سياسي أكثر تنظيماً وفاعليةً، كانت له تجلياته الحزبية، ومن أبرزها حزب "بوديموس" أو "قادرون" الذي تمكّن من تحقيق مفاجأة حقيقية في الانتخابات الإسبانية أخيراً، بحصوله على عدد معتبر من المقاعد النيابية في مواجهة الحزبين الإسبانيين العريقين "الحزب الشعبي" و"الحزب الاشتراكي".
يتميز هذا الحزب الجديد، والذي وُلد من رحم الحراك الشعبي في الشارع، بقيادته الشابة وبمطالبه الراديكالية، خصوصاً في المسألة الاجتماعية، وفي قضايا التجديد الديمقراطي والتصدي للفساد. وفي مقابل سرعة التطور النوعي، من الناحية الحزبية التي حولت حركة الغاضبين الإسبان إلى قوى حزبية فاعلة في المشهد السياسي، يظل السؤال مطروحاً: لماذا لم يتمكن الشارع التونسي من إفراز مخرجات مماثلةٍ، خصوصاً في ظل أن النواة الصلبة للثورة التونسية تشكلت من الشباب؟
بدايةً، لا يمكن الحديث عن تطابق بين المشهدين، التونسي والإسباني، من الناحية السياسية، على الأقل من جهة رسوخ قدم الديمقراطية الإسبانية، ووجود آليات واضحة للتداول على السلطة والتغيير الديمقراطي منذ عقود، في مقابل الخطوات الأولى والمتعثرة للتحول الديمقراطي التونسي، غير أنه من المشروع التساؤل عن إمكانية ظهور كياناتٍ سياسيةٍ مماثلةٍ لبوديموس في تونس، خصوصاً في أفق المحطات الانتخابية المقبلة، فالتجربة السياسية التونسية الحالية تعاني من جملةٍ من المعوقات التي أفرزها المشهد الحزبي في السنوات الخمس الماضية لعل أهمها:
ـ حداثة التجربة الديمقراطية في تونس، وعدم قدرة كثيرين من القيادات الحزبية على تمثلها، إلى الحد الذي يجعل بعض الكيانات السياسية تكتفي بأحجامها الضئيلة جماهيرياً، على أن تأتلف مع غيرها ممن يتقارب معها فكراً وتوجهاً.
ـ معظم قيادات الأحزاب السياسية التونسية تنتمي إلى شريحة عمرية جاوزت الستين، وهو ما منع الشباب من تولي مناصب قيادية، والتأثير على الخيارات المركزية للتنظيمات السياسية، وهو ما دفعه إلى الانشقاق والتشكل في مجموعات صغيرة.
ـ الفوضى التنظيمية التي أصابت المشهد السياسي التونسي، بعد الرابع عشر من يناير 2011،
لا ترجع إلى أن تعدد الفصائل والأحزاب السياسية يعبر عن خلافات جوهرية، أو أنها مبنية على ضرورات موضوعية، وإنما على العكس تماماً، إذ يصعب على أي باحث أن يكتشف أي فروق جوهرية بين تلك الفصائل، تماماً كما يسهل على مرتادي المقاهي السياسية ومجالس النميمة إدراك أن الشخصانية والتعنت والرغبة في تصدر المشهد من جانب، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التاريخية، فضلاً عن تشبث القيادات بمواقعها من جانب آخر، هما السببان الجوهريان لحالة التعدد الصوري للقوى السياسية في تونس.
ـ عزوف جيل الشباب عن الممارسة الحزبية، بل وحتى الانخراط في الشأن العام (مثل المشاركة في الانتخابات) منح القوى الأكثر تنظيماً من اكتساح المشهد الانتخابي، وأعطى الفرصة لقوى النظام القديم للعودة إلى السلطة.
ـ دور المال السياسي في إفساد المشهد الحزبي في تونس بعد الثورة، حيث نجد حضوراً واضحاً للوبيات المالية ورجال الأعمال الفاسدين في التحكم في مكوّناتٍ حزبية كثيرة، وهي تتحرك بدافع امتلاك مزيد من النفوذ، وتوجيه الرأي العام خدمة لمصالح خاصة.
كل هذه العوامل، مضافاً إليها حالة الجمود على مستوى الممارسة السياسية، في مقابل الحركية الجماهيرية على مستوى الشارع، خصوصاً في القضايا الاجتماعية، المتعلقة أساساً بالتشغيل ومحاربة الفساد والمطالبة بمزيد من الشفافية، وهو ما تجلى، أخيراً، في ما شهدته مناطق تونسية مختلفة من تظاهرات واعتصامات، تطالب بمراجعة منوال التنمية، وحل مشكل التفاوت بين الجهات، وهي تحركات كان وقودها الجيل الجديد الذي عجزت عن استيعابه قوى اليمين المحافظ، سواء الإسلامية منها أو المدنية، وفشلت قوى اليسار الحزبية في تصدر مشهدها، على الرغم من محاولتها ركوب موجة المطالب الشبابية، يجعل المشهد السياسي التونسي منفتحاً على إمكانات واسعة لإعادة التأسيس السياسي، وبناء كيانات شبابية فاعلة وواعية، على نمط "بوديموس" الإسباني، شريطة أن تعي هذه القوى الواعدة طبيعة التحولات التي تشهدها تونس، وأن توائم بين رغبتها في التغيير السياسي والخروج من أزمة التمثيل الحزبي والحفاظ على جذرية التجربة الديمقراطية الجديدة، بعيداً عن كل الأشكال الديماغوجية والشعارات العدمية، أو الوقوع في المعاداة الجلدية للدولة والنظام.
استفاد حزب بوديموس من التحرك الثوري الذي انطلقت جذوته من الشارع الإسباني، ورَاكَمَ تجربته النضالية، بداية من ساحات الاعتصام، ومروراً بظهور حركة "15 مايو" وتيار "الغاضبون"، ووصولاً إلى تشكل الكيانات السياسية الشبابية الجديدة التي حققت حضوراً برلمانياً مميزاً، سواء على المستوى الإسباني المحلي، أو على المستوى الأوروبي. وفي المقابل، ليس ثمة ما يمنع الشباب التونسي من استلهام هذه التجربة الإسبانية، وتشكيل قوة سياسية فعلية، تكون قادرة على الاقتراح والتأثير وتقديم البدائل، بعيداً عن الاكتفاء بدور "الغاضب" الذي يكتفي بالانتقاد والهجوم على الأحزاب، وبالمطلبية الفجة التي لا أفق لها، ليتحول إلى منزلة "القادر" على التغيير وإعادة بناء المشهد السياسي، وتجديد الديمقراطية التونسية، وبناء جيل سياسي جديد، يفلح في الخروج بالبلد من أزماته، بعد أن حرّره من رمز استبدادها ذات شتاء سنة 2011.
يتميز هذا الحزب الجديد، والذي وُلد من رحم الحراك الشعبي في الشارع، بقيادته الشابة وبمطالبه الراديكالية، خصوصاً في المسألة الاجتماعية، وفي قضايا التجديد الديمقراطي والتصدي للفساد. وفي مقابل سرعة التطور النوعي، من الناحية الحزبية التي حولت حركة الغاضبين الإسبان إلى قوى حزبية فاعلة في المشهد السياسي، يظل السؤال مطروحاً: لماذا لم يتمكن الشارع التونسي من إفراز مخرجات مماثلةٍ، خصوصاً في ظل أن النواة الصلبة للثورة التونسية تشكلت من الشباب؟
بدايةً، لا يمكن الحديث عن تطابق بين المشهدين، التونسي والإسباني، من الناحية السياسية، على الأقل من جهة رسوخ قدم الديمقراطية الإسبانية، ووجود آليات واضحة للتداول على السلطة والتغيير الديمقراطي منذ عقود، في مقابل الخطوات الأولى والمتعثرة للتحول الديمقراطي التونسي، غير أنه من المشروع التساؤل عن إمكانية ظهور كياناتٍ سياسيةٍ مماثلةٍ لبوديموس في تونس، خصوصاً في أفق المحطات الانتخابية المقبلة، فالتجربة السياسية التونسية الحالية تعاني من جملةٍ من المعوقات التي أفرزها المشهد الحزبي في السنوات الخمس الماضية لعل أهمها:
ـ حداثة التجربة الديمقراطية في تونس، وعدم قدرة كثيرين من القيادات الحزبية على تمثلها، إلى الحد الذي يجعل بعض الكيانات السياسية تكتفي بأحجامها الضئيلة جماهيرياً، على أن تأتلف مع غيرها ممن يتقارب معها فكراً وتوجهاً.
ـ معظم قيادات الأحزاب السياسية التونسية تنتمي إلى شريحة عمرية جاوزت الستين، وهو ما منع الشباب من تولي مناصب قيادية، والتأثير على الخيارات المركزية للتنظيمات السياسية، وهو ما دفعه إلى الانشقاق والتشكل في مجموعات صغيرة.
ـ الفوضى التنظيمية التي أصابت المشهد السياسي التونسي، بعد الرابع عشر من يناير 2011،
لا ترجع إلى أن تعدد الفصائل والأحزاب السياسية يعبر عن خلافات جوهرية، أو أنها مبنية على ضرورات موضوعية، وإنما على العكس تماماً، إذ يصعب على أي باحث أن يكتشف أي فروق جوهرية بين تلك الفصائل، تماماً كما يسهل على مرتادي المقاهي السياسية ومجالس النميمة إدراك أن الشخصانية والتعنت والرغبة في تصدر المشهد من جانب، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التاريخية، فضلاً عن تشبث القيادات بمواقعها من جانب آخر، هما السببان الجوهريان لحالة التعدد الصوري للقوى السياسية في تونس.
ـ عزوف جيل الشباب عن الممارسة الحزبية، بل وحتى الانخراط في الشأن العام (مثل المشاركة في الانتخابات) منح القوى الأكثر تنظيماً من اكتساح المشهد الانتخابي، وأعطى الفرصة لقوى النظام القديم للعودة إلى السلطة.
ـ دور المال السياسي في إفساد المشهد الحزبي في تونس بعد الثورة، حيث نجد حضوراً واضحاً للوبيات المالية ورجال الأعمال الفاسدين في التحكم في مكوّناتٍ حزبية كثيرة، وهي تتحرك بدافع امتلاك مزيد من النفوذ، وتوجيه الرأي العام خدمة لمصالح خاصة.
كل هذه العوامل، مضافاً إليها حالة الجمود على مستوى الممارسة السياسية، في مقابل الحركية الجماهيرية على مستوى الشارع، خصوصاً في القضايا الاجتماعية، المتعلقة أساساً بالتشغيل ومحاربة الفساد والمطالبة بمزيد من الشفافية، وهو ما تجلى، أخيراً، في ما شهدته مناطق تونسية مختلفة من تظاهرات واعتصامات، تطالب بمراجعة منوال التنمية، وحل مشكل التفاوت بين الجهات، وهي تحركات كان وقودها الجيل الجديد الذي عجزت عن استيعابه قوى اليمين المحافظ، سواء الإسلامية منها أو المدنية، وفشلت قوى اليسار الحزبية في تصدر مشهدها، على الرغم من محاولتها ركوب موجة المطالب الشبابية، يجعل المشهد السياسي التونسي منفتحاً على إمكانات واسعة لإعادة التأسيس السياسي، وبناء كيانات شبابية فاعلة وواعية، على نمط "بوديموس" الإسباني، شريطة أن تعي هذه القوى الواعدة طبيعة التحولات التي تشهدها تونس، وأن توائم بين رغبتها في التغيير السياسي والخروج من أزمة التمثيل الحزبي والحفاظ على جذرية التجربة الديمقراطية الجديدة، بعيداً عن كل الأشكال الديماغوجية والشعارات العدمية، أو الوقوع في المعاداة الجلدية للدولة والنظام.
استفاد حزب بوديموس من التحرك الثوري الذي انطلقت جذوته من الشارع الإسباني، ورَاكَمَ تجربته النضالية، بداية من ساحات الاعتصام، ومروراً بظهور حركة "15 مايو" وتيار "الغاضبون"، ووصولاً إلى تشكل الكيانات السياسية الشبابية الجديدة التي حققت حضوراً برلمانياً مميزاً، سواء على المستوى الإسباني المحلي، أو على المستوى الأوروبي. وفي المقابل، ليس ثمة ما يمنع الشباب التونسي من استلهام هذه التجربة الإسبانية، وتشكيل قوة سياسية فعلية، تكون قادرة على الاقتراح والتأثير وتقديم البدائل، بعيداً عن الاكتفاء بدور "الغاضب" الذي يكتفي بالانتقاد والهجوم على الأحزاب، وبالمطلبية الفجة التي لا أفق لها، ليتحول إلى منزلة "القادر" على التغيير وإعادة بناء المشهد السياسي، وتجديد الديمقراطية التونسية، وبناء جيل سياسي جديد، يفلح في الخروج بالبلد من أزماته، بعد أن حرّره من رمز استبدادها ذات شتاء سنة 2011.