في تركيا دار قديم يستقبل كبار السن واليتامى وغيرهم. وبعكس ما يروى عن دور العجزة في المنطقة العربية، يبدو أن نزلاء هذا الدار مرتاحون، وإن كان بعضهم يشعر بالوحدة في ظلّ صعوبة بناء صداقات جديدة أحياناً.
تعدّ مؤسّسة دار العجزة التركيّة في مدينة إسطنبول، أحد أقدم الدور في المنطقة. هذه المؤسّسة لا تقدّم العناية لكبار السن فقط، بل أيضاً لحديثي الولادة والأطفال الذين تخلّى عنهم أهلهم، إضافة إلى كبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو جنسهم أو قوميّتهم.
كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد أسّس دار "بفرمان" في السادس من إبريل/ نيسان في عام 1890، بعد تدفق كثيرين إلى إسطنبول إثر الحرب الروسية ـ العثمانية (1877 ــ 1879)، ليأوي نازحين، من بينهم مرضى ويتامى ومشردون اضطروا إلى ترك دورهم إثر الحرب. يمتد الدار على مساحة 40 دونماً وسط مدينة إسطنبول، ويضم مبنى للإدارة ومبنى للأيتام، وسبعة مبان للعناية بـكبار السن، ومبنى عيادات ومركز إعادة تأهيل وتعليم مهني، إضافة إلى مسجد وكنيسة وكنيس يهودي. ويضم 50 سريراً للأطفال و504 للبالغين.
يقول المشرفون عليه إنّه منذ تأسيسه، قدّم خدمات إيواء لأكثر من 72 ألف شخص، من بينهم 29 ألف طفل. وتشترط دار العجزة إما أن يكون الأشخاص من مواليد مدينة إسطنبول، أم عاشوا في المدينة مدة خمس سنوت وقد فقدوا القدرة على العمل، أم فقراء يحتاجون إلى عناية. كذلك، يستقبل الأشخاص المعوقين والمسنين في حال غياب المكلّف القانوني بالاعتناء بهم. ويعتني بالأطفال الذين تخلّى عنهم أهلهم، وقد وضعوا تحت الحماية بقرار من المحكمة. وبشكل أساسي، يؤمن المال من خلال تبرعات محبي الخير، إضافة إلى بدلات إيجار المنشآت التابعة له، عدا عن حصوله على 10 في المائة من قيمة ضرائب الرفاهية التي تحصلها بلدية إسطنبول الكبرى.
يمضي قاطنو دار العجزة القادرون على الحركة يومهم بالتنزه في الحدائق الواسعة الموجودة في الدار، ويتبادلون أطراف الحديث مع الزوار. يقول إسماعيل (66 عاماً) إن بناء صداقات بعد هذا العمر ليس أمراً صعباً. تكفي بعض التفاصيل المشتركة.
عمل إسماعيل موظّفاً في القطاع الحكومي لمدة 35 عاماً. لكن بعدما أصيب بالشلل وفقد زوجته، جلبه أصدقاؤه إلى الدار. يبدو ممتناً للعاملين في المؤسسة، مشيراً إلى أن الناس لا يدركون حقيقة الحياة في دور رعاية كبار السن. يقول: "يصعب ألّا يكون الإنسان سعيداً هنا. منذ جئت إلى الدار، اكتشفت قدرتي على الرسم. جئت إلى المرسم وقد جربت الرسم ونجحت".
من جهتها، ترفض سعاد (85 عاماً) أن تزورها بناتها في الدار، علماً أنها هي من أصرت على القدوم إلى الدار، رغم إصرار أبنائها على العناية بها. حتى إنهم عرضوا عليها إسكانها في منزل خاص، وتوظيف امرأة تعتني بها.
تقول سعاد: "اخترت القدوم إلى هنا بعد وفاة زوجي. في البداية، لم يكن لدي أصدقاء. لكن في وقت لاحق، تمكنت من بناء صداقات مع باقي نزلاء الدار. أقضي معظم وقتي في حياكة الصوف وقراءة القرآن. المكان هنا هادئ ومريح، ولا يزعجني شيء". تضيف أن بناتها عاطفيات للغاية، وفي كل مرة يأتين إليها يبكين كثيراً. "نقضي وقتاً جميلاً، وحين يذهبن أشعر بالوحدة. أفضل أن ألتقيهم خارج الدار، في مقهى أو أي مكان أخر، قبل أن يعود كلّ منا إلى حياته".
ولا تنحصر الخدمات التي يقدمها الدار بالمسنّين. يهتم الدار أيضاً بأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة، مثل عباس (46 عاماً)، المصاب بمرض التصلب اللويحي منذ 18 عاماَ، والمقيم في الدار منذ ثماني سنوات. ويقول عباس: "قدمت إلى مدينة إسطنبول منذ 18 عاماً من ولاية مالاطيا (جنوب)، وعملت لفترة طويلة في قطاع النسيج. لكن بعد عامين، اضطررت إلى ترك العمل. اعتنت بي زوجتي لفترة طويلة، ثم قررت القدوم إلى دار العجزة. يوماً بعد يوم، تقل قدرتي على الحركة. لكن مع ذلك، لم أفقد الأمل في إمكانية شفائي. أنا مرتاح في الدار في ظل مساعدة الأصدقاء".
يوميّاً، يزور الدار عدد من المتطوّعين وفاعلي الخير، ويقضون مع نزلائه بعض الوقت، ويقدّمون لهم خدمات، ويتحدّثون معهم ويعتنون بهم. تقول يارين، إحدى اللواتي يواظبن على زيارة الدار: "آتي إلى هنا في أوقات فراغي. كانت أمي قبل وفاتها نزيلة في هذه الدار، وكلّما اشتقت إليها آتي إلى هنا. أحاول مساعدة المسنّات بما استطعت. قبل أسابيع، أتيت إلى هنا وصبغت شعر إحداهن ففرحت للغاية". تضيف: "أحاول ألا أنقطع عن اللواتي عرفتهن من المسنّات"، لافتة إلى حاجتهن إلى بعض الوقت للوثوق بزوارهن الجدد. برأيها، فإن أكثر ما يعانين منه ليس الوحدة، لكن الانكسار بعدما يتوقف أحد عن زيارتهن.