"بريكسيت" يبعث كابوس تفكك المملكة المتحدة

16 مارس 2017
تسير تيريزا ماي في حقل ألغام (ليون كواغيلر/الأناضول)
+ الخط -

على خلاف ما قالته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في يناير/كانون الثاني الماضي، من أن "بريطانيا المستقبل ستكون أقوى، وأكثر عدلاً، وأكثر اتحاداً"، يخشى سياسيون، أمثال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جون ميجر، وخليفته توني بلير، أن يعصف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالمملكة المتحدة.

فمنذ وقفت تيريزا ماي، في 11 يوليو/تموز الماضي، لتعلن على الملأ جملتها الشهيرة "بريكسيت يعني بريكسيت"، وتتعهد باحترامها "الإرادة الشعبية"، والمضي نحو "أفضل خروج" من الاتحاد الأوروبي، وهي تسير في حقل ألغام، تنفجر داخلياً وخارجياً، كان آخرها خلال اليومين الماضيين، عندما أعلنت رئيسة حكومة اسكتلندا، نيكولا ستيرجن، عزمها تنظيم استفتاء جديد حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، ثم تبعتها زعيمة حزب "شين فين" في إقليم إيرلندا الشمالية، ميشيل أونيل، بالدعوة لإجراء استفتاء شعبي حول خروج الإقليم من المملكة المتحدة والانضمام إلى جمهورية إيرلندا. ومن دون شك، فإن هذه الدعوات لم تكن من باب "اللعبة" السياسية، كما وصفتها رئيسة الوزراء البريطانية، لكنها تعكس حجم المخاطر التي تحيط بالمملكة المتحدة بسبب "بريكسيت"، وما يمكن أن يلحق بالاتحاد البريطاني، إذا ما أخفقت حكومة لندن بالتوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، تقبل به جميع مكونات المملكة المتحدة.

وتعارض حكومتا اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، وإلى حد ما حكومة إقليم ويلز، خروج بريطانيا التام من الاتحاد الأوروبي، أو ما تصفه وسائل الإعلام بـ"الخروج القاسي". وتطالبان بـ"خروج مرن" يُتيح للمملكة المتحدة البقاء في السوق الأوروبية الموحدة. ويبدو أن موقف إقليمي اسكتلندا وإيرلندا الشمالية يصطدم بموقف "صقور بريكسيت" في حكومة تيريزا ماي، الرافضين لخوض مفاوضات "مرنة" مع الاتحاد الأوروبي تقوم على أساس "وصول بريطانيا الكامل إلى السوق الموحدة، مقابل التزامها بالحريات الأوروبية الأربع: تنقل الأفراد، وتنقل الخدمات، وتنقل السلع، وتنقل رؤوس الأموال".

استفتاء اسكتلندا الجديد

وما هي إلا ساعات قليلة على تصويت مجلسي العموم واللوردات على قانون "بريكسيت"، الذي يسمح لرئيسة الوزراء البريطانية بالشروع في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى سارعت زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، نيكولا ستيرجن، للإعلان عن عزمها تنظيم استفتاء جديد حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة. وقالت ستيرجن، الاثنين الماضي، إن الاستفتاء الجديد سينظم بين خريف 2018 وربيع 2019، أي بعد انتهاء مفاوضات "بريكسيت" مع الاتحاد الأوروبي. ومع أنه لم يمض سوى عامين ونصف العام على استفتاء مماثل نظمته اسكتلندا في سبتمبر/أيلول العام 2014، يوم صوت 55 في المائة من الناخبين الاسكتلنديين لصالح عدم الانفصال عن بريطانيا، إلا أن ستيرجن ترى أن الظروف السياسية اختلفت بعد "بريكسيت"، وأن العلاقة مع بريطانيا لا ينبغي أن تستمر كما هي، لا سيما إذا أصرت الحكومة المركزية في لندن على إنكار إرادة الاسكتلنديين الذين صوتوا في استفتاء "بريكسيت" لصالح البقاء مع الاتحاد الأوروبي، ويرغبون الآن في "خروج مرن" لا يقطع كل الصلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي.


ويرى قادة الحزب القومي الاسكتلندي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أسوأ بكثير من خروج اسكتلندا من المملكة المتحدة. بل يرى هؤلاء أن اسكتلندا ستكون أفضل حالاً بعد خروجها من بريطانيا وانضمامها كدولة مستقلة إلى الاتحاد الأوروبي، فالانضمام إلى تكتل اقتصادي، يضم 27 دولة، أفضل من الانغلاق ضمن بريطانيا ما بعد "بريكسيت". ويرى المراقبون أن مهمة لندن في تحريض الناخبين الاسكتلنديين ضد الدعوات الانفصالية ستكون أصعب، لأن الظروف السياسية بعد "بريكسيت"، اختلفت بالفعل، ولم يعد من المُقنع للناخب الاسكتلندي الحديث عن "معاً أفضل"، وهو الشعار الذي رفعته الأحزاب المناهضة لانفصال اسكتلندا في العام 2014، بينما يرى بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبي، الذي يقول أنصار الحزب القومي الاسكتلندي إنه أهم لاسكتلندا من بريطانيا.

الأمر الآخر الذي تغير منذ استفتاء العام 2014، هو أن أوروبا، التي عارضت انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، في العام 2014، لم تعد تتحرج، سياسياً وأخلاقياً من انفصال اسكتلندا عن بريطانيا التي انفصلت عن الاتحاد الأوروبي. بل إن دولاً أوروبية، مثل إسبانيا وبلجيكا، التي رفضت في العام 2014 انفصال اسكتلندا عن بريطانيا، وانضمامها للاتحاد الأوروبي، خوفاً من تشجيع الحركات الانفصالية الأخرى الناشطة في أوروبا، لا تُظهر التشدد ذاته راهناً، وهو ما تجلى في موقف إسبانيا. فبينما وصف رئيس الوزراء الاسباني، ماريانو راخوي، في العام 2014، استقلال اسكتلندا بـ"الطوربيد الذي سيسرع تدمير الاتحاد الأوروبي"، أكد نائبه في رئاسة حزب الشعب الحاكم، العضو في البرلمان الأوروبي، استيبان بونس، لقناة "بي بي سي" الأسبوع الماضي، أن بلاده لن ترفع "الفيتو" في وجه انضمام اسكتلندا للاتحاد الأوروبي إذا ما خرجت من المملكة المتحدة، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي.

ومن المتوقع أن تدعم دول الاتحاد الأوروبي استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، على خلاف موقفها في استفتاء العام 2014 لاعتبارين، أولاً الرغبة في ضم اسكتلندا المستقلة للاتحاد الأوروبي تعويضاً عن خروج بريطانيا، وثانياً من باب الضغط لدفع بريطانيا لإعادة النظر في موقفها والتفكير بالعودة للاتحاد. ورغم المواقف التي عبرت عنها زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي خلال الأيام القليلة الماضية، إلا انه يُستبعد أن تسارع اسكتلندا في خطوات استفتاء جديد، قبل انتهاء مفاوضات الانفصال بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، من جهة، وقبل ضمان دعم شعبي واضح من أجل الاستقلال، يتجاوز الـ55 في المائة من الشعب الاسكتلندي.
وأظهر استطلاع للرأي، نشرت نتائجه أمس الأربعاء، أن غالبية الاسكتلنديين ترفض استقلال الإقليم عن بريطانيا. وبحسب الاستفتاء، الذي نشرته صحيفة "التايمز"، فإن 57 في المائة ممن شملهم الاستفتاء رفضوا استقلال الإقليم. وقال الوزير البريطاني لشؤون اسكتلندا، ديفيد ماندل، لصحيفة "هيرالد" الاسكتلندية، إنه من المستحيل إجراء استفتاء قانوني وحاسم على استقلال اسكتلندا في الإطار الزمني الذي تطلبه ستيرجن.

إيرلندا الشمالية تتململ

لم تنتظر رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، طويلاً بعد توليها منصبها في يوليو/تموز الماضي، حتى بادرت بزيارة إقليم إيرلندا الشمالية، العضو الرابع في المملكة المتحدة، إلى جانب أقاليم ويلز، وإنكلترا، واسكتلندا، للتأكيد على وحدة البلاد، بعد استفتاء 23 يونيو/حزيران الماضي، إذ صوت 52 في المائة من البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحاولت ماي، آنذاك، حماية المملكة المتحدة من كابوس التفكك إثر الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا سيما وهي تستشعر تململ القوميين في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية بعد أن عارضوا انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. إلا أن محاولات ماي، تبددت بالأمس، مع تزامن الدعوة إلى استفتاء جديد في اسكتلندا، مع دعوة ميشيل أونيل إلى اجراء استفتاء شعبي حول خروج الإقليم من المملكة المتحدة والانضمام إلى جمهورية إيرلندا. وطالبت أونيل، التي تولت قيادة حزب "شين فين" في يناير/كانون الثاني الماضي، خلفا للقيادي التاريخي مارتن ماكغينيس، بإجراء الاستفتاء في "أقرب وقت ممكن".

وكما لا يمكن لحكومة لندن تجاهل تحركات الحزب القومي الحاكم في اسكتلندا، لا يمكن لها كذلك تجاهل تحركات حزب "شين فين" المعروف بالجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، الذي أصبح منذ انتخابات الأسبوع الماضي ثاني أكبر حزب في برلمان الإقليم، إذ حصل على 27 مقعداً في الجمعية، يتقدمه الحزب الاتحادي الديمقراطي الوحدوي بمقعد واحد. ويخشى زعماء "شين فين" أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى عودة "الحدود السابقة" والجمارك مع جمهورية إيرلندا المجاورة، وهي المخاوف التي حاولت تيريزا ماي تبديدها خلال زيارة لها إلى بلفاست، عاصمة الإقليم، في يوليو/تموز الماضي، وإعلانها، خلال مؤتمر صحافي، أن "لا أحد يرغب في العودة إلى الحدود السابقة"، واعدة بالتوصل إلى "حل عملي" مع جمهورية إيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي. كما يخشى الإيرلنديون الشماليون المؤيدون لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أن يؤدي مضي حكومة لندن في "بريكسيت قاسٍ" إلى انهيار "اتفاق الجمعة العظيمة"، الذي توافقت عليه الأحزاب في العام 1998، وعودة التوتر للإقليم، وتجدد النزعة الانفصالية في إيرلندا الشمالية التي عاشت ويلات حرب أهلية بين الكاثوليك القوميين المنادين بضم الإقليم إلى جمهورية إيرلندا، وخصومهم من البروتستانت المتمسكين بالبقاء ضمن المملكة المتحدة.