من بين الظواهر التي تشير إلى ازدهار الحركة الشعرية، وتنشُّطِها في فضاء ثقافي ما، وجود مجلات شعرية تعبّر عن ديناميكية هذا المشهد، أو هكذا تعوّد متابعو الحياة الأدبية وهم ينظرون إلى الفترات التي ظهرت فيها مجلات الشعر بين القرنين التاسع عشر والعشرين. أما القرن الحالي، فقد ترافق مع انسحاب الشعر من مساحات كثيرة كان يهيمن عليها، حتى بدا الحديث عن مجلات شعرية في ثقافتنا من مهجور القول.
ضمن هذا الإطار، تصدر عن "منشورات المتوسط" في 21 آذار/ مارس المقبل، بالتزامن مع "اليوم العالمي للشعر"، مجلة شعرية فصلية بعنوان "براءات" وهو عنوان السلسلة التي أطلقتها الدار خلال السنوات الماضية وقدّمت مجموعات شعرية كثيرة.
ستصدُر المجلة ورقياً كل ثلاثة أشهر، كما سيرافقها موقع إلكتروني تشرف عليهما هيئة تحرير موسّعة تضم شعراء وكتّاب من معظم البلدان العربية، وسيكون مديرها المسؤول خالد سليمان الناصري، ويرأس تحريرها أحمد عبد الحسين. "العربي الجديد" تنشر هنا النص التقديمي للمجلة.
■ ■ ■
مبتدأ لا بدّ منه
منذُ أمدٍ بعيدٍ لم نعدْ نسمع في الأرجاء منادياً ينادي: "لقد مات الشعرُ"، فقد خمدتْ الأصواتُ المؤبّنةُ لهذا الفنّ العتيق بعد أن فشل الجميعُ في إعطاء دليل ملموس على أنّ أحداً حضر جنازته.
ذلك لأنَّ الشعر لم يمتْ يوماً ولن يموت. ومن قِصَرٍ في النظر وفقر دمٍ في الخيال أن يتصّور أحد ما بأن فتوحات العلم أو اجتراحات الفكر أو تسارع التقنية؛ قادرة على قمع الرغبة في أن يكون الإنسان شاعراً أو مأخوذاً بالشعر.
الشعر فنّ بريء. وتعبير هايدغر "الشعر أكثر الأفعال حظاً من البراءة" وَضَعَ الشعرَ بإزاء مهمة تكاد تكون مستحيلة مؤداها أن القول الشعري لا يُصرَف ولا يستثمَر في مداولات كلِّ ما هو نافع، وقد يخسر براءته في سوق الأيديولوجيا أو مصارف الرأي وفي كل ميدان يجري فيه التغالب بين الناس.
هيدغر هو القائل أيضاً "إنّ أكثر الأشياء ضرورة هي تلك التي لا نفع فيها" لأنها وحدها القادرة على تغيير طريقة الإنسان في الكلام عن نفسه وعن العالم. و "ما لا نفع فيه" سيبقى بعد انتهاء ما انتهى نفعه فاندثر، ألم يقل هولدرلين "ما يبقى يؤسسه الشعراء"؟
هذه البراءة التي هي الاسم الآخر للشعر، لا تنفكّ عنه، بل هي بدّه اللازم وشرطه التامّ، ولهذا لنْ يُقيَّضَ البقاء لنصوص تشبهتْ بالشعر لكنها داهنتْ أغراضاً أو توسّلت منفعة أو استجدتْ قولاً منصوصاً عليه، نصوص تتقدّم وعلى محياها ابتسامة عريضة، تشبه ابتسامة المرتشي.
القول الشعريّ بريءٌ أو يكون رميمَ كلامٍ!
لكنّ الاستسهال في النشر جرّ استسهالاً في الكتابة، وتوفّر جمهورٍ جاهز خلق أوهاماً كثيرة لدى الشاعر عن نفسه وعن الشعر أيضاً، فانتشرَ في الأرجاء شعرٌ يباشر اللغة في حدّها الأدنى والخيال في أفقه الأقرب، ما أنتج ركاماً من النصوص المتشابهة لشعراء كثر متشابهين.
في منعطف كهذا، لا بدّ لكلّ من تستعر في وجدانه جذوة الشعر أن يسائل نفسه عن قدرته على إيقاف هذا التنميط، وإنقاذ ما هو جوهريّ في الشعر، دون ادعاء ولا بطولة زائفة.
مجلتنا "براءات" تأخذ على عاتقها هذه المهمة الممكنة ـ المستحيلة في آن.
"براءات" الاسم المستقى من السلسلة الشعرية التي تصدرها "المتوسط" وجدتْ جواب ندائها لدى مجموعة من الشاعرات والشعراء اجتمعوا في بيروت وقرروا أن يعتقدوا، ببراءة تماثل براءة الشعر، أن هناك الكثير من التفاهة تكتب باسم الشعر ولا بد أن يكون للشعر مجلة تدافع عن شرف الاسم.
مجلة "براءات" مجلة عربية فصلية تنشغل بكل ما يتعلق بالشعر نصاً ومقالا نقدياً ودراسة نظرية وتطبيقية وحواراً وتقريراً وقصاً ومقاربة بين الشعر وفنون أخرى.
تريد أن تكون سبّابة تدل عارفي طريقهم إلى المتاهة، والراشدين إلى الغواية، ومنصة يُعول عليها حين يُتحدث عن التجارب الشعرية العربية المعاصرة، والتي ستبحث "براءات" بشكل خاص عن أصواتها الجديدة والقديمة التي لم تسمع بعد.
وتريد أيضاً التقريب بين تجارب الشعراء العرب وتكريس المضيء منها. دافعنا إلى ذلك خلوّ الثقافة العربية بشكل يكاد يكون تاماً من مطبوعٍ شعريّ ذي هوية عربية عابرة للبلدان.