"إذا واتاك الحظ بما فيه الكفاية لتعيش في باريس وأنت شاب، فإن ذكراها ستبقى معك أينما ذهبت طوال حياتك، لأن باريس وليمة متنقلة". كتب الروائي الأميركي إرنست همنغواي لصديق له عام 1950. ثمة كتب تعيش أقداراً خاصة وتتحكم بمصائرها خيوط أحداث غير متوقعة وهذا بالضبط ما وقع لكتاب همنغواي "وليمة متنقلة" (1964)، والذي صدر بعد ثلاثة أعوام على رحيله (ترجمة إلى الفرنسية بعنوان "باريس حفلة").
فغداة اعتداءات الجمعة السوداء التي هزت باريس مؤخراً، وأسفرت عن سقوط 130 ضحية، انتقل كتاب "وليمة متنقلة" أو "باريس حفلة" من الرفوف الخلفية للمكتبات إلى واجهاتها وتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً بين عشية وضحاها وصارت تباع منه 500 نسخة يومياً، حد أن المكتبات الباريسية وضعت لافتات تنذر بأن مخزونها من نسخ الكتاب نفد، ما دفع بالناشر الفرنسي إلى طبع أكثر من عشرين ألف نسخة إضافية لتلبية الطلب المتزايد.
عودة هذا الكتاب كانت بفضل سيدة سبعينية جاءت بكامل أناقتها حاملة باقة من الورود لتضعها أمام مسرح "باتكلان"، وحين سألها أحد الصحافيين من قناة "بي إف إم تي في" عن مشاعرها قالت: "جئت حاملة الورود تكريماً لذكرى هؤلاء الضحايا الأبرياء وعلينا أن نقرأ ونعيد قراءة كتاب همنغواي "باريس حفلة" لأن باريس حضارة عريقة وقديمة. علينا أن ندافع عن الخمسة ملايين مسلم الذين يعيشون ديانتهم بيننا باحترام وسماحة".
لم تدم مداخلة السيدة السبعينية سوى 25 ثانية على الهواء لكن مضمونها المؤثر طبع المشاهدين بتلقائيته وصدقه وتلميحه لكتاب همنغواي "باريس حفلة" فانتشر هذا المقطع بسرعة كبيرة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي حد أن العديد من وسائل الاعلام اتصلت بالسيدة السبعينية وأنجزت معها حوارات مطولة. ونتيجة هذه الشهرة التلقائية تناقل الفرنسيون نصيحة السيدة بقراءة وإعادة قراءة كتاب "باريس حفلة" وتهافتوا على المكتبات لشراء نسخ منه.
والواقع أن هذه الشهرة المفاجئة للكتاب تعود في الأساس إلى العنوان ووقعه السحري والمباشر. فجملة العنوان القصيرة جداً "باريس حفلة" تعبر عن ردة فعل جماعية على اعتداءات الجمعة السوداء التي استهدفت باريسيين أغلبهم شبان وشابات كانوا يرقصون على وقع موسيقى "الروك" في مسرح "باتكلان" وعشرات الآخرين الذين كانوا يتسامرون في عدة مقاه وحانات ومطاعم انقضّ عليها المهاجمون برشاشاتهم وقتلوا مرتاديها بعشوائية ودم بارد. فقد بدا واضحاً للفرنسيين أن الانتحاريين استهدفوا في الواقع نمط العيش الباريسي وعادات الباريسيين وطقوسهم في الحياة الليلية. وهذا ما قصدته السيدة السبعينية حين قالت إن حضارة باريس عميقة ومتجذرة خاصة في شقها "الرواقي" القائم على مبدأ اللذة والاستمتاع. فما استهدفه الإرهابيون في الواقع هو نمط العيش الفرنسي بانحيازه الصارخ لثقافة الفرح والمتعة. أيضاً، كان المستهدف ثقافة الاختلاط بين الجنسين والمساواة وحرية المعتقد وحرية الحب.
ملاحظة السيدة السبعينية كانت دقيقة وفي الصميم لأن كتاب "باريس حفلة" أو "وليمة متنقلة" يعكس نمط عيش باريسي متميز، ويتحدث بإسهاب عن سحر باريس في فترة ما بين الحربين حين قصدها همنغواي برفقة زوجته الأولى هادلي ريتشاردسون ليحقق حلمه في الكتابة رغم فقره الشديد. ويسرد همنغواي قصة حياته في باريس في الفترة ما بين 1921 و1926 ويضمّنها نوادر شيقة عن الكتّاب والفنانين، خاصة الأجانب الذين كانت تزدحم بهم المقاهي الباريسية ومنهم الشاعر إزرا باوند والكاتبان سكوت فتزجيرالد وجيمس جويس. وأيضا سيلفيا بيتش التي كانت تملك مكتبة باسمها على ضفاف السين ما تزال قائمة حتى الآن وكان يلتقي فيها الكتاب الأميركيون المقيمون في باريس مثل فورد مادوكس فورد وأليستر كاولي وجيرترود شتاين.
يستمد الكتاب سحره من أجواء تلك الفترة الذهبية التي عاشتها باريس ما بين الحربين. ففي تلك الفترة التي أطلق عليها الفرنسيون "السنوات المجنونة" كانت المدينة تنضح بغليان إبداعي قلّ نظيره في أي مدينة أخرى في العالم في تلك السنوات. وكانت المدينة تحاول طي صفحة الحرب العالمية الأولى على يد جيل شاب حماسي مفعم بالأمل وتوّاق إلى عيش الحياة بصخب ومتعة. وكانت السمة الأساسية لذلك الجيل هي الاحتفال بالحياة ونسيان الحرب ومآسيها.
كما اتسمت هذه الفترة بالبداية الفعلية لتحرر المرأة واختراقها الحياة العامة وانبعاث أسطورة المرأة الفرنسية بأناقتها وفتنتها الغامضة. وإطلالة قصيرة على قائمة الأسماء التي عاشت تلك الفترة في باريس تعطي فكرة عن وهج تلك الفترة الطلائعية في الأدب والفن والفكر: أندريه بروتون وجماعته من الكتّاب السورياليين: فيليب سوبو، بول فاليري، آنتونان آرتو، روني كروفيل وأيضاً جون كوكتو وجورج باتاي، ومن الفنانين مان راي وموديلياني وبرانكوسي وكاندينسكي، في تلك الفترة أيضاً نشطت الحركة الدادائية على أنقاض التكعيبية للتحول لاحقاً إلى حركة سوريالية يتوسطها بيكاسو وميرو وماكس آرنست وماكس جاكوب وآخرون.
ألق باريس في تلك السنوات جذب عشرات الكتّاب والفنانين من مختلف أنحاء العالم ومنهم همنغواي وجيمس جويس وعزرا باوند وهنري ميلر وصموئيل بيكيت وبيكاسو وسلفادور دالي، وكان هؤلاء يلتقون في مقاهي ومطاعم حي مونبارناس في الدائرة الرابعة عشرة والذي كان حي الكتاب والفنانين المفضل. وكتاب "باريس حفلة" يزدحم بمشاهدات همنغواي في مقاهي "لاكوبول" و"كلوزري دي ليلا" و"لودوم" و"لاروتوند" التي كانت بؤر الحياة الليلية الباذخة.
كتب همنغواي معظم فصول "وليمة متنقلة" في صيف 1957 على شكل مقاطع استعاد فيها ذكرياته في باريس ما بين 1921 و1926. اشتغل عليه في هافانا حيث كان يقيم وأيضاً في مزرعته بولاية إيداهو الأميركية. وكتب بعض شذراته أيضا في إسبانيا صيف 1959وواصل تحريره إلى حدود صيف 1961. وبعد انتحاره أكملت زوجته ماري همنغواي تحريره انطلاقاً من المخطوط الأصلي ونُشر عام 1964 بالتزامن في أميركا وفرنسا.
هكذا هي إذن قصة باريس كحفلة ووليمة متنقلة، قصة تمزج بين سحر الأدب العابر للأجيال وبين ضرورة الأدب في مواجهة الأفكار الظلامية القاتلة. ورغم أن باريس الآن ليست هي باريس العشرينيات، ورغم أن الوهج الإبداعي لتلك الفترة خفت كثيراً ومعظم الأماكن التي نقل سحرها همنغواي اختفت أو تحوّلت إلى مكاتب أو دكاكين باهتة لبيع الثياب، ما زالت باريس تسكن ذاكرة ومخيلة العالم كمدينة فرح ومتعة وإبداع تماماً كما خلّدها همنغواي في كتابه.
أخيراً، فقد صدر كتاب "باريس حفلة" أو "وليمة متنقلة" مترجماً إلى العربية عدة مرات، كان آخرها للكاتب العراقي علي القاسمي في عدة طبعات عن "دار المدى" في دمشق و"ميريت" في القاهرة و"الهيئة المصرية العامة للكتاب" ضمن سلسلة مكتبة الأسرة. وكانت ترجمة أخرى أقدم قد صدرت للكتاب نفسه بتوقيع العراقي فتح الله المشعشع وتحت عنوان "ليالي باريس"، كما ترجمها عطا عبد الوهاب بعنوان "عيد متنقل" عن "دار المأمون" في بغداد.
اقرأ أيضاً: أنا أيضاً اسمي الصالحي