ما كادت أصوات المعارضين لسياسة الترحيب باللاجئين في ألمانيا أن تهدأ على خلفيّة النتائج البرلمانية المخيّبة للآمال في ولاية هيسن (وسط) التي قرّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على أثرها التنازل عن الترشّح مجدداً لزعامة حزبها "الاتحاد المسيحي الديمقراطي"، حتى انبرى الحزب اليميني الشعبوي "البديل من أجل ألمانيا" يهاجم ميركل وحكومتها بهدف إثارة المزاج وتعبئة الناخبين. أتى ذلك هذه المرّة على خلفيّة توجّه برلين إلى المصادقة على "الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية" في خلال المؤتمر الحكومي الدولي الذي تنظمه الأمم المتحدة في مراكش المغربية يومَي 10 و11 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. ومن المفترض أن يكون الاتفاق بمثابة إعلان جماعي دولي للتنسيق وتحمّل المسؤولية تجاه المهاجرين، خصوصاً أنّ نحو ثلاثة في المائة من سكان العالم صاروا مهاجرين منذ عام 2017 إمّا طوعاً أو بالإكراه.
من خلال الإدانة الشاملة وغير العادلة، أراد اليمين تسويق تصوّره المتضمّن مغالطات كثيرة والاستفادة من الوضع في داخل أوروبا الممزّقة حول هذا الملف، مشدداً على أنّ الاتفاق يشكّل انتهاكاً للسيادة الوطنية ويسرّع الهجرة ويضاعفها. وهو الأمر الذي رفضته الحكومة الاتحادية في برلين بكثير من الحزم، ورأت في ردّ على سؤال لكتلة الحزب اليميني الشعبوي أنّ الهجرة جزء من التعايش البشري يمكن استغلال مزاياها وفرصها بشكل أفضل من خلال التعاون الدولي، وأنّه لا توجد تكاليف مباشرة إلزامية. والاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة ليس معاهدة دولية ولا يمكن أن يكون مادة نقاش في داخل مجلس النواب، إلا أنّ البوندستاغ الألماني أخذ بمطلب نوّاب "البديل من أجل ألمانيا" وسوف يخضع الاتفاق غداً الخميس، إلى مناقشة برلمانية بعدما عارضه كذلك عدد من نوّاب حزب ميركل إذ إنّه لم يميّز بين الهروب وهجرة العمالة وهذا عيب آخر فيه، أي تعامله مع حركات الهجرة عموماً وليس مناطق الهجرة التي تحكمها بالفعل اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين بموجب القانون الدولي.
ألمان ضدّ المهاجرين (كارستن كول/ Getty) |
في السياق، يرى المراقبون أنّ الاعتراض على الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية في هذا التوقيت، جاء ليغذّي الرؤية والمفاهيم غير الواضحة لليمين الشعبوي والمتطرّف المناهض للهجرة واللجوء، على الرغم من أنّ الاتفاق ليس ملزماً قانوناً ويتضمّن فقط توصيات، والهدف بالتأكيد هو تأجيج الغضب في أوروبا ضدّ اللاجئين واستثماره سياسياً. ومن المستغرب أن تعلن دولة مثل النمسا، وهي الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي حالياً، الانسحاب من الاتفاق لتتبعها جمهورية التشيك وبولندا وكرواتيا وسلوفينيا بذريعة أنّ الأمم المتحدة تريد إضفاء شرعية على أيّ شكل من أشكال الهجرة، وهذا ما لا ينسجم مع مطلب ضبط قضايا الهجرة.
كذلك، يقول خبراء في شؤون الهجرة إنّ الهدف المعلن من الاتفاق والذي يأتي في 34 صفحة، يقتضي تحقيق أكبر تعاون في مجال الهجرة الدولية بكلّ أبعادها وباعتبارها واحدة من المبادئ التوجيهية التي يجب تقاسمها في عالم مُعَولم لتحقيق هجرات آمنة ونظامية وسط تعاون كبير، نظراً إلى أنّ توقّعات الخبراء تشير إلى أنّ ملايين البشر سوف يتركون منازلهم في العقود المقبلة للعيش في مناطق أكثر رخاءً ونماءً من العالم. بالتالي، يجب أن تكون الأطراف المشاركة جميعها مستعدّة لتغيير مسار العمل، لأنّ القوانين المعمول بها حالياً لا تسمح بالهجرة إلا على نطاق محدود للغاية. يُذكر أنّ الاتفاق يقترح على سبيل المثال تعزيز التوظيف العادل والأخلاقي للعمال المهاجرين في أهداف اجتماعية وسياسية أخرى.
انتقادات "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي استُكملت من خلال الإعلام، إذ إنّه عمد إلى نشر معلومات على الصفحة الأولى لموقعه الإلكتروني تفيد بأنّ الحكومة تعتزم الانضمام الى الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة الذي يمنح المهاجرين من كل أنحاء العالم حقوقاً فضفاضة بما في ذلك بألمانيا. وتابع "البديل" أنّه على الرغم من أنّ ذلك الاتفاق غير ملزم، إلا أنّه من الممكن أن يكون له بموجب القانون الدولي تأثير ملزم، بالتالي قد يصير قانوناً عاماً بطريقة ملتوية، كأن تعتمد المحاكم على مندرجاته في حالات الشكّ، والعواقب هنا قد تكون وخيمة. وأكثر من ذلك، بالنسبة إلى "البديل"، يمكن لبلدان الهجرة أن تصير مناطق استيطان جديدة لشعوب من أديان وثقافات أخرى، وقد أشار إلى أنّ الحكومة الاتحادية الألمانية تتبع المشروع من دون تدقيق، بخلاف الولايات المتحدة وأستراليا والمجر والنمسا والدنمارك والديمقراطيات الأخرى.
وشدّد "البديل" على أنّ الاتفاق جاء بمثابة برنامج نقل سريّ للمهاجرين الاقتصاديين والفقراء، وعليه يمكن لجميع المهاجرين الاستفادة من نظام الرعاية الاجتماعية التي لم يساهموا بها، في المستقبل. وهو ما عبّر عنه صراحة زعيم "البديل من أجل ألمانيا" يورغ مويتن أخيراً، وقال إنّ الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة المقترح ما هو إلا برنامج لإعادة توطين المهاجرين طالبي اللجوء الفارين من الفقر. من جهتها، قالت رئيسة كتلة الحزب في البوندستاغ أليس فايدل إنّ الموافقة على الاتفاق تضفي شرعيّة على الهجرة غير الشرعية وتمنح المهاجرين المحتملين في كل أنحاء العالم مفاتيح نظامنا الاجتماعي.
... وألمان مع المهاجرين (بوريس روسلر/ فرانس برس) |
هذه المزاعم والبيانات المضللة التي يطلقها اليمين عززت المخاوف لدى السلطات الرسمية، بعدما حاول "البديل من أجل ألمانيا" الإيحاء بأنّ سيادة الدولة سوف تُقيَّد بهذا الاتفاق، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية الألمانية إلى التوضيح من خلال المتحدثة باسمها أولريكه ديمر بأنّ الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة غير ملزم وهو ليس معاهدة دولية والقرارات المتعلقة بالهجرة من معايير ومستوى تبقى في إطار سيادة الدولة. وأوضحت أنّ الاتفاق يتعلق بتنظيم الهجرة العالمية، في محاولة لشجب كلّ محاولات تعبئة الرأي العام ضد الاتفاق للهجرة ودحض تخمينات زيادة الهجرة إلى بعض البلدان. وأكدت ديمر أنّ ألمانيا سوف توافق على الاتفاق العالمي مثلما هو مخطط له، وسوف تدعم تنفيذه وسوف تسعى إلى نقاش موضوعي متوازن حوله. من جهتها، كانت ميركل قد شددت كذلك، في خلال زيارتها لبولندا أخيراً، على أنّها ترى في الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة عاملاً مساعداً للحدّ من الهجرة غير الشرعية ويحافظ على استقلالية الدول في قضايا الهجرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية يهدف إلى تحديد قواعد التعامل مع المهاجرين واللاجئين، وسوف يوفّر التدابير اللازمة بشأن كيفية استقبالهم وتقبّلهم في الدول المضيفة، فقط من خلال اعتبار الهجرة مصدراً للثروة والابتكار والتنمية المستدامة وليس كتحدٍّ يمكن أن يؤدّي إلى أعباء ثقيلة على دول الاستقبال. وهذا ما أبرزته عضو مجلس خبراء المؤسسات الألمانية للتكامل والهجرة، بيترا بندل، لوكالة الأنباء الألمانية، مؤكدة أنّ الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة يتيح فرصاً جيّدة لكل المهاجرين ولدول الاستقبال، في حين أنّ خطورته تكمن في احتمال انحراف الدول عن مضمونه أو ببساطة تجاهل الحكومات التوصيات ونتائج التقييم والمراجعة بشأنه. أمّا المبعوثة الخاصة للسكرتير العام لمنظمة الأمم المتحدة لشؤون اللجوء والهجرة، لويزة أربور، فقد وصفت أخيراً خبر إعلان النمسا الانسحاب من الاتفاق بأنّه "أمر مؤسف جداً"، بعدما كانت فيينا "نشطة" في المفاوضات خلال الأشهر الأخيرة. ورأت أنّه كان يتوجّب على الأخيرة التمعّن في النصّ جيداً، وبعدها التعبير عن مخاوفها وتحفظاتها، لافتة إلى أنّ الإيحاء بأنّ الاتفاق يمثّل تهديداً للسيادة الوطنية حجّة لا أساس لها لأنّه يحترم سيادة الدول وحقّها في التنظيم المستقل لسياستها للهجرة. وأكّدت أنّ "إطار التعاون" هو أحد الأهداف الرئيسية للحدّ من الهجرة، إن لم يكن القضاء على الهجرة غير الآمنة والفوضوية وغير الشرعية.
وكانت 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة قد وافقت في عام 2016 على مسوّدة الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة الذي لا يمسّ بسيادة الدول الموقّعة عليه ولا بتحديد سياساتها المتعلقة بالهجرة. وهو يضمن عدم وقوع المهاجرين في أيدي زعماء الجرائم المنظمة، وعدم تحوّلهم ضحية للتمييز والاستغلال في البلدان التي تستضيفهم. والاتفاق حدّد 23 هدفاً، من بينها المساعدة في تأمين الوثائق للاجئين وتعزيز المهارات المهنية للمهاجرين ومنحهم فرصة للحصول على الخدمات الأساسية، بما في ذلك تعليم الأطفال، والحرص على تمييز أقل ضدّهم، مع العمل على تسهيل لمّ شمل أسرهم وتحرير التأشيرات، فضلاً عن بذل الجهود لتأمين عودة كريمة إلى بلدانهم الأصلية. ولم يلزم الاتفاق الدول بقبول المهاجرين وتقييدها بحصص، مع الإقرار بحق كلّ دولة على حدة في تقرير سياستها الوطنية للهجرة. وحدّد الاتفاق حقوق المهاجرين والتزامات الدول تجاههم، وإمكانية استفادتهم مستقبلاً من النظام الاجتماعي، مع قمع التهديدات المحتملة بحقهم، ناهيك عن دعوة وسائل الإعلام إلى إبراز فوائد الهجرة لجهة إثراء المجتمع، عدا عن تعزيز التعاون الدولي والشراكات العالمية من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية.