تحلّ، اليوم الجمعة، الذكرى السبعين لأعظم عملية إنزال في تاريخ الحروب العسكرية، ذات 6 يونيو/ حزيران 1944. يومها، كانت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة)، تغيّر وجه أوروبا لمرة واحدة وإلى الأبد. في هذا اليوم، دُقت المسامير في نعش النازية الألمانية، وقاد الجنرالان، الأميركي، دوايت أيزنهاور، والبريطاني، برنارد مونتغومري، حملة كسر الاحتلال الألماني للقارة العجوز، بما فيها تحطيمهم لثعلب الصحراء الألماني، إروين رومل، بدءاً من الشواطئ الفرنسية، من النورماندي تحديداً.
كل شيء بدأ هناك، التدخّل العسكري الأميركي في أوروبا، الذي بدّل من المعطيات الميدانية، التي لم تكن لمصلحة الأوروبيين. فالقارة القديمة، كانت لقمة سائغة للزعيم الألماني أدولف هتلر، الذي وإن لم يتمكن من احتلال بريطانيا، إلا أن التحالف الواقعي، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، هزمه في عقر داره، في برلين.
أوروبا التي تغيّرت بعد إنزال النورماندي، استقبلت الأميركي كمحرّر أولاً، وكفاعل خير ثانياً، بفعل "مشروع مارشال"، الذي وضع أسسه رئيس الأركان الأميركي، الجنرال جورج مارشال، في 1947. خصصت واشنطن 12.731 مليار دولار لإعادة إعمار 16 دولة أوروبية، اضافة الى الجزء الغربي من ألمانيا. لم يتمكن المشروع من اختراق جدار برلين، فالستار الحديدي السوفياتي، منع دول أوروبا الشرقية من الاستفادة من المعونة الأميركية. حصة الأسد كانت من نصيب البريطانيين (3.297 مليار دولار)، وبعدهم الفرنسيين (2.296 مليار دولار)، ثم الألمان (1.448 مليار دولار). وعليه بُنيت التحالفات الأميركية مع المثلث: لندن ـ باريس ـ برلين، لعقود وسنوات، ولا يزال التحالف مستمراً.
رُفع الستار الحديدي مع نهاية الحرب الباردة. أوروبا الشرقية بدت جائعة الى اقتصاد مستقرّ، بعد عقود طويلة من الشيوعية. الأميركي كان على السمع. هبّ لنجدتها، بموازاة السعي الحثيث لأوروبا الغربية، في توسيع الاتحاد الأوروبي. كانت تسعينات القرن العشرين واعدة، الى درجة أن مطعم "ماكدونالدز" افتتح فرعاً له في روسيا، على أنقاض "بيروسترويكا" آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشيف.
في تلك الحقبة، كل شيء صار مناسباً للعالم الغربي. الدولار، اليورو، الاقتصاد المستقرّ، الى حدّ ما. الروسي مشغول بولادته الجديدة، وباقتصاده المتعثّر، وألمانيا تمنح القروض يُمنةً ويُسرى. حلف شمال الأطلسي يمتدّ في الشرق، رغم العرقلة الروسية في جورجيا وأوكرانيا. باتت احتفالات النورماندي السنوية، مقياساً لقوة حلفاء الحرب العالمية الثانية. الروسي يحضر دائماً "فقط لأنه نجح في الصمود شرقاً في ستالينغراد"، في وجه الألمان.
بعد 70 عاماً على إنزال النورماندي، وربع قرن على انتهاء الشيوعية، أضحت احتفالات هذا العام مختلفة. الروسي بات في عين الاعصار، منذ الأزمة الأوكرانية في 18 فبراير/ شباط الماضي، وضمّ شبه جزيرة القرم الى روسيا، واندلاع حرب أهلية صغيرة في الشرق الأوكراني، في دونيتسك ولوغانسك. والأهمّ أن عنصراً، لم يكن بهذه الأهمية وقتها، بات الأكثر تأثراً في الأزمة الحالية: خطوط الغاز.
يتحرّك الحلفاء على وقع الغاز حالياً، في وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي وصفه الأمير البريطاني، تشارلز بـ"هتلر الجديد". فـ"مشروع مارشال"، الذي ساهم في إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي، والصناعة الأوروبية، تطوّر الى درجة الاعتماد على مصادر طاقة متعددّة، من الفحم الى الغاز، تحديداً في ألمانيا. في السابق، جمعت المصيبة الحلفاء، بعد زحف قوات الرايخ الألماني على الدول المجاورة، واحتلال أوروبا بسرعة فائقة، قياساً على مفهوم الحروب العسكرية. أما اليوم، فالطاقة باتت العنصر الأساس لأي تحالف أو صدام، على رقعة تمتدّ من الصين الى الولايات المتحدة، وتمرّ في روسيا وأوروبا.
لكن ما كان يصحّ في الحالة الألمانية في الأمس، مع جنون هتلر واستعداده لغزو العالم، لا يجد مقابلاً مماثلاً لدى بوتين، الذي يعمل بغرض عدم تفويت الفرصة الحالية، من أجل تمتين الاقتصاد الروسي، ولو عبر قطاع الغاز، المُفترض أن يغطّي كل مشاكل موسكو المالية. وما اتفاقه مع جاره الصيني الصعب، سوى نموذج عمّا يريده.
أما الحلفاء، فلم يعودوا في موقع "الساعي الى الدفاع عن الأرض وإزالة الاحتلال"، بل باتوا في موقع يُمكّنهم من "فرض عقوبات"، إن نُفّذت أم لا، لكنها تكفي للدلالة على أنهم في موقع "الآمر".
في النورماندي، حين يقف الحلفاء إجلالاً واحتراماً لجنودهم الذين سقطوا أثناء الانزال، سيدركون أن الروسي، بكل أحلامه الجديدة، ليس رايخاً ألمانياً جديداً، وأن الاتحاد الأوروبي المهتزّ، لن يقع، رغم أوهام التفكك لدى بعض اليمين الأوروبي. ومع أنه من الصعب مقارنة رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بوينستون تشرشل، أو الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بفرانكلين روزفلت، أو حتى الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، بشارل ديغول، غير أن هؤلاء لن يحملوا مشعل الحرب، طالما أن بوتين ليس هتلر جديداً بعد، ولا يُرجّح أن يصبح كذلك.