وفيما سعت "النهضة" خلال الأشهر الماضية من تحالفها الحكومي، لتمرير مواقفها من قضايا كبرى بهدوء، إلا أن موقفها من عزل وزير الأوقاف لعدد من الأئمة كان مختلفاً تماماً، وعبّر عن غضب شديد غير مألوف، وفاجأ كل المتابعين. كما أثار هذا الموقف تساؤلات عن أسباب خروج غضب الحركة من وزير الأوقاف إلى العلن، بعدما كانت تحفظاتها من شكل وحجم مشاركتها في الحكومة أو قانون المصالحة أو غيرها من المسائل الكبرى، تُناقش في القنوات الداخلية للائتلاف الحاكم، وحتى إذا خرجت للإعلام فبهدوء كبير وصياغة متقنة.
بداية الأزمة كانت منذ أشهر مع تولي عثمان بطيخ مهام وزارة الشؤون الدينية، حين أعلنت الحكومة أنها ستشرع في استعادة المساجد العشوائية والخارجة عن سيطرتها والتي يشرف عليها "متطرفون" أو أئمة غير مشهود لهم بالكفاءة، وهو ما شرعت فيه بالفعل خصوصاً بعد عملية سوسة الإرهابية، وتمكّنت بالقوة أحياناً من غلق هذه المساجد العشوائية أو التي تم السيطرة عليها من متشددين، إلى حين إعادة تأهيلها والترخيص لها مجدداً وتعيين أئمة من الوزارة.
غير أن هذه السياسة طاولت بعض الأئمة المعروفين، على غرار نور الدين الخادمي، الذي شغل بنفسه منصب وزير الشؤون الدينية في حكومة الترويكا التي تولتها حركة "النهضة"، وطاولت أيضاً عدداً من المساجد في محافظتي صفاقس وسوسة، ما خلق حالة من التوتر الكبير في هاتين المدينتين الكبيرتين وصلت في صفاقس إلى حد رفض الصلاة وراء الأئمة الجدد وإنزالهم من المنابر وسط احتجاجات كبيرة.
ويقول قياديون من "النهضة" لـ"العربي الجديد" إن ما يقوم به وزير الشؤون الدينية سيشعل الوضع في العديد من المدن، وخصوصاً في مدينة صفاقس التي تعيش منذ مدة أجواءً مشحونة جداً وصلت إلى مقاطعة صلاة الجمعة وأداء صلاة الظهر عوضاً عنها، وهو أمر لم يحدث منذ قرون في تونس، ملمحين إلى إمكانية أن ينفد الصبر ويزيد من حالة الاحتقان.
وتتالت مواقف قياديّي "النهضة" بين من يعتبر ما يجري تصفية حسابات سياسية، وبين من يراها مربكة للحرب على الإرهاب، إلى حد اعتبارها مواصلة لسياسة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.
غير أن اللافت هو بيان "النهضة" بمناسبة العودة السياسية، إذ اعتبر أن ما يقوم به بطيخ "طرد تعسفي واستهداف عشرات الأئمة الذين عُرفوا باعتدالهم"، وهو ما خلّف "انطباعاً بأن الأمر يؤشر إلى عودة التصفيات الإيديولوجية في تعارض تام مع مصلحة البلاد وما تقتضيه من وحدة وتجميع للصفوف خصوصاً على المستوى الديني الذي يُعتبر عنوان الصراع الرئيسي مع الإرهاب الذي يهدد بلادنا"، بحسب البيان.
وعبّرت الحركة عن رفضها لما سمته "سياسة الانتقام والطرد العشوائي التي ينتهجها وزير الشؤون الدينية"، لافتة إلى أن "هذه السياسة إذا تواصلت ستتحوّل أداة الاستقطاب الرئيسية للإرهاب ومغذياً لآلة الدعاية الإرهابية التي تعتمد على إقناع الشباب أنهم في مواجهة دولة معادية للإسلام والدين". وذهبت "النهضة" إلى حد اعتبار هذه السياسة "موروثة عن الديكتاتورية في توتير الأجواء في أماكن العبادة وزرع العداوة بين المواطنين".
اقرأ أيضاً: الغنوشي لـ"العربي الجديد": من مصلحة تونس نجاح تحالفنا و"النداء"
ويعكس هذا الموقف حالة الغضب الكبيرة التي تسود صفوف بعض القيادات والقواعد داخل الحركة، على الرغم من أن قيادياً بارزاً يكشف لـ"العربي الجديد" أنه لم يكن يحبّذ هكذا موقف لأنه "سيشوّش على التركيز في خصوص قانون المصالحة"، معبّراً عن "تخوّفه من تمرير هذا القانون بشكله الحالي بافتعال أزمات".
غير أن ما يكشفه هذا الموقف الصارم من "النهضة" في خصوص سياسة وزير الشؤون الدينية، هو تخوّفها من أن تصبّ الحملة على المساجد الخارجة عن سيطرة الدولة لصالح منافسها وحليفها في الوقت نفسه، حزب "نداء تونس"، وإعادتها إلى المربع القديم، خصوصاً قبيل الانتخابات المحلية العام المقبل، واستعمالها ضدها. ولا يخفى على أحد أن المساجد تعتبر فضاءً شعبياً كبيراً في تونس، استعملته كل الأنظمة قبل وبعد الثورة لتمرير سياساتها والترويج لبرامجها، حتى من قبل المتشددين الذين استغلوها لإرسال آلاف الشباب إلى بؤر التوتر.
وسبق للوزير بطيخ أن ردّ على هذه الاتهامات بالإشارة إلى أن الأئمة المعزولين هم من المتشدّدين بالفعل وأن لديه تسجيلات تثبت ذلك، ولكن "النهضة" تعتبر أن ما يقوم به يمثل استهدافاً ممنهجاً ولعبة سياسية واضحة.
أما أئمة صفاقس فعقدوا أمس الأول الإثنين ندوة صحافية عبّروا خلالها عن "أﻟﻣﻬﻡ ﻭﺗﺣﺳّﺭﻫﻡ ﻣﻥ ﺍﻟﺗﻌﺎﻣﻼﺕ ﺍﻟﻔﻭﻗﻳّﺔ ﻣﻥ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺷﺅﻭﻥ ﺍﻟﺩﻳﻧﻳّﺔ ﻭﻣﺎ ﺗﺑﺩﻳﻪ ﻣﻥ ﺗﻌﻧّﺕ ﻓﻲ ﺗﻌﺎﻁﻳﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﺷﺄﻥ ﺍﻟﺩﻳﻧﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺑﻼﺩ ﻋﻣﻭﻣﺎً وﻓﻲ ﺟﻬﺔ ﺻﻔﺎﻗﺱ ﺧﺻﻭﺻﺎً"، ﻛﻣﺎ ﺃﻧﻬﻡ ﺗﻣﺳّﻛﻭﺍ ﺑﺭﻓﺿﻬﻡ "ﻟﻠﻘﺭﺍﺭﺍﺕ ﺍﻟﺗﻌﺳّﻔﻳّﺔ ﻓﻲ ﺣﻕّ ﺍﻷﺋﻣّﺔ". ودعوا ﺍﻟﻭﺯﺍﺭﺓ ﺇﻟﻰ "ﻓﺗﺢ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﺣﻭﺍﺭ ﻭﺍﻟﺗﺭﺍﺟﻊ ﻋﻥ ﻗﺭﺍﺭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺗﻌﺳّﻔﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﻣﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺗﻌﺎﻭﻥ ﻹﺭﺳﺎء ﺍﻟﺳّﻠﻡ ﺍلاﺟﺗﻣﺎﻋﻲ"، معتبرين ما يحدث "ﻣﺅﺍﻣﺭﺓ ﺗﺳﺗﻬﺩﻑ ﺍﻟﺳﻠﻡ ﺍلاﺟﺗﻣﺎﻋﻲ ﻓﻲ ﻅﻝّ ﻣﺎ ﺍﻋﺗُﺑﺭ ﺗﺟﺎﻭﺯﺍﺕ ﺧﻁﻳﺭﺓ ﻓﻲ ﺻﻔﺎﻗﺱ ﻭﺗﻌﻛﻳﺭﺍً ﻟﻠﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻁﻳﺑﺔ ﺑﻳﻥ ﺍﻷﺋﻣّﺔ ﻭﺭﻭّﺍﺩ ﺍﻟﻣﺳﺎﺟﺩ ﻣﻥ ﺟﻬﺔ ﻭﺍﻷﻣﻧﻳﻳﻥ ﻣﻥ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻳﺔ".
وتبدو حالة التوتر في هذا الشأن في درجاتها القصوى وقد تُشكل مؤشراً على حالة جديدة من العلاقات السياسية داخل الائتلاف الحاكم، إذا لم يتم التعاطي معها سريعاً لحفظ التوازن الهش.
اقرأ أيضاً: تونس وجدل عزل الأئمة: محاربة إرهاب أم "احتكار الدين"؟