"النهضة" التونسية وهامش المناورة الضيق
تصنع حركة النهضة الحدث السياسي في تونس مجدداً، على الرغم من المُحاصرة التي تعيشها داخل البرلمان منذ أسابيع، من الحزب الدستوري الحر الذي تتزعمه القيادية السابقة في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (المنحل)، عبير موسي. لا يتعلق الأمر هذه المرّة بإفلات "النهضة" من لوائح برلمانية لحزب موسي، وتبعات ذلك على ائتلاف حكومي يعيش تجاذبات وخلافات لم تعد خافية على أحد، وإنما بموقفٍ تصعيدي لافت للحركة من حكومة إلياس الفخفاخ التي تشارك فيها بعدد غير قليل من الوزراء، خرجت فيه عن تحفظها وتريثها المعتاد.
عبرت الحركة، في بيان لمكتبها التنفيذي، الذي يترأسه زعيمها راشد الغنوشي، ويقوم بتسيير الأعمال في انتظار تكوين مكتب جديد منذ أسابيع، بلغة غير مسبوقة، عن قلقها تجاه "حالة التفكّك التي يعيشها الائتلاف الحكومي وغياب التضامن المطلوب بين مكوناته"، إضافة إلى ما اعتبرته "محاولة بعض الشركاء استهداف الحركة والاصطفاف مع قوى التطرّف السياسي"، ما يستوجب "إعادة تقدير الموقف من الحكومة والائتلاف المكون لها عموماً"، في ظل استمرار تمسّك رئيس الحكومة برفض دعوة الحركة إلى توسيع الحزام السياسي للائتلاف الحكومي، عبر ضم حزب قلب تونس، الذي ترغب الحركة (أو رئيسها) في منع أي تقارب مفترض بينه وبين الحزب الدستوري الحر تحت قبة البرلمان قد يتطور إلى سحب للثقة منه.
رفض الفخفاخ تعيين مستشاريْن اقترحتهما عليه "النهضة"، وهما مقرّبان إلى الغنوشي
ترى "النهضة" أن رئيس الحكومة يتعمّد تهميشها، مع أنها الحزب الأكبر في الائتلاف الحكومي، في مقابل تقارب واضح ودور أكبر لحزب التيار الديمقراطي بدرجة أولى، وتليه حركة الشعب، في كواليس صناعة القرار السياسي الحكومي في قصر القصبة. كان الغضب النهضويّ إزاء هذا "التجاهل" لرغبة الحركة في مشاركةٍ أكبر في القرار السياسي والاقتصادي للحكومة واضحا في أكثر من مناسبة، وأكثر من بلاغ (بيان) رسمي. وقد برز ذلك في علاقةٍ بتعامل الحكومة مع ملف فساد رجال أعمال بارزين، وقضية الالتزامات الحكومية في محافظة تطاوين، جنوبي البلاد، ناهيك عن رفض الفخفاخ تعيين مستشاريْن اقترحتهما عليه "النهضة"، وهما من المقرّبين إلى رئيس الحركة، وطلب تغييرهما، على الرغم من اتفاق سابق على أن يرشّح كل حزب مستشاريه.
لكن دعوة المكتب التنفيذي لحركة النهضة لإعادة تقدير الموقف من الحكومة، وإنْ صدرت، هذه المرة، بلغةٍ واضحةٍ وأكثر حدّة، فتبقى في إطار المناورة السياسية، ولن تتحوّل إلى طلاق رسمي مع الفخفاخ، قبل أسابيع طويلة تستنفد فيها الحركة كل سبل الحصول على مكاسب سياسية مقابل البقاء، إذ تعلم "النهضة" قبل غيرها أن آليات سحب الثقة من الحكومة معطلة، بموجب النص الدستوري إلى غاية نهاية شهر أغسطس/ آب المقبل، تاريخ مرور ستة أشهر على تسلم الفخفاخ مقاليد الحكم. كما أن بناء تحالف متين مع حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة للمرور إلى سحب الثقة وتكوين ائتلاف حكومي بديل يبدو صعب المنال، إذ سيحتاج الثلاثة إلى تسعة أصوات إضافية على الأقل لبلوغ الأغلبية المطلقة المطلوبة لذلك، وفيه مجازفة سياسية كبيرة لن يتمكّن الغنوشي من تمريرها بسهولة، كما ستفتح حينها باب الخلاف مع رئيس الدولة على مصراعيه، هذا إذا لم يباغتها الفخفاخ بالاستقالة أصلا، على الرغم من أن ذلك مستبعد، ليسمح لرئيس الجمهورية، قيس سعيد، بإعادة اختيار شخصية أخرى. وإضافة إلى ذلك كله، لا تبدو حركة النهضة مستعدة لمغادرة الحكم بسهولة، أو الدفع إلى إعادة انتخابات جديدة قبل أشهر قليلة من مؤتمر حاسم يُفترض أن يُعقد قبل نهاية العام الحالي، للحسم في مصير زعامة راشد الغنوشي لها.
بناء تحالف متين مع حزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، للمرور إلى سحب الثقة وتكوين ائتلاف حكومي بديل يبدو صعب المنال
كما أن موقف "النهضة" الجديد لا يبدو ناضجا، مؤسّساتيا، ومن المتوقع أن يتسبّب في جدل كبير إذا ما عُرض للحسم على اجتماع مقبل لمجلس الشورى، إذ صدر بعد أسبوع من اجتماع للمجلس الذي يُعد أعلى سلطة قرار سياسي في الحركة، ونتجت عنه توصية بإعطاء مهلة جديدة للفخفاخ في انتظار نتائج كل التحقيقات الإدارية والقضائية والبرلمانية في ملف شبهة تضارب المصالح، وهو ما جعل وقْع الموقف الجديد مفاجئا حتى وسط قياديي الحركة، خصوصا أنه لم تُسجل تطورات جديدة في ملف تضارب المصالح، وفي المشهد السياسي عموما، باستثناء تفاصيل جلسة تصويت مكتب رئاسة مجلس البرلمان ضد تمرير لائحة حزب عبير موسي لتصنيف الإخوان المسلمين حركة إرهابية، وما رافقه من جدل وتراشق إعلامي مع حزب التيار الديمقراطي، أحد أضلع التحالف الحكومي، الذي صوّت ممثله في ذلك الاجتماع مع عرض اللائحة على الجلسة العامة، متشبثا بشكلانية قانونية كان الحزب في غنىً عنها عموما. يبدو ذلك واضحا من تدوينة رئيس المكتب السياسي للحركة، نور الدين العرباوي، وهو قيادي بارز وأحد أبرز وجوه ما يُسمّى تيّار "الوحدة والتجديد" صلب الحركة، قال فيها إنه "عندما يكون في البيت جدار معوج يبقى الحل دائما في إصلاح الجدار وليس هدم البيت"، في إشارة مزدوجة إلى أي انعكاسات محتملة لقرار "الانفصال" عن حكومة إلياس الفخفاخ على المشهد السياسي عموماً، والوضع داخل الحركة خصوصا.
موقف "النهضة" الجديد لا يبدو ناضجا، مؤسّساتيا، ومن المتوقع أن يتسبّب في جدل كبير إذا ما عُرض للحسم على اجتماع مقبل لمجلس الشورى
كل هذه السياقات تجعل الموقف الجديد للمكتب التنفيذي للحركة، أو رئيسها تحديدا، غير منفصلٍ عن مسار التجاذبات الداخلية التي تعيش على وقعها "النهضة" منذ أشهر، بسبب معركة التموقعات وموعد المؤتمر القادم، وما إذا كان الغنوشي سيمدّ رئاسته بعده. وقد وجد الغنوشي نفسه، خلال اجتماع مجلس الشورى أخيرا، أمام تقاربٍ كان مفاجئا له ولداعميه، بين ثلاثة تيارات داعمة لمبدأ الانتقال القيادي صلب الحركة، وعدم التجديد له لرئاسة الحركة، على الرغم من اختلافاتٍ بين هذه المجموعات في علاقة بتفاصيل "مكانة الزعيم" بعد المؤتمر المقبل، وهي مجموعة "الوحدة والتجديد" التي تضم رفيق عبد السلام، صهر الغنوشي، ورئيس مجلس الشورى، عبد الكريم الهاروني، ومجموعة التيار الإصلاحي التي تضم وزير الصحة عبد اللطيف المكي وقياديين آخرين في الحركة، عرفوا بنقدهم العلني لسياسات الغنوشي وتوجهاته، وتيار يُطلق على نفسه تسمية "الخيار الثالث"، ويضم قيادات دعوية وتقليدية في "النهضة"، من بينها عبد المجيد النجار والحبيب اللوز.
هذا التقارب، حسب مصادر مختلفة من أعضاء شورى الحركة، بعثر أوراق الغنوشي على مستويين: الأول يتعلق بحسم مجلس الشورى في تحديد موعد المؤتمر في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ما يعني أن الرجل يعيش الأشهر الستة الأخيرة له على رأس حركة تزعّمها منذ عام 1981، عكس ما كانت تدعو إليه مجموعة مقرّبة منه أرادت الدفع بتأجيل المؤتمر إلى ربيع العام المقبل، بعدما أفضت عملية التصويت إلى نتيجة 55 صوتا مقابل 45. أما المسألة الثانية فتتعلق بإمكانية سيطرة هذه التيارات مجتمعة على التوازنات صلب لجان الإعداد المادي والمضموني للمؤتمر المقبل، والتي ستُنتخب خلال اجتماع مجلس الشورى المقرر انعقاده في منتصف شهر يوليو/ تموز الجاري.
لم تكن حركة النهضة، منذ قبولها المشاركة في حكومة إلياس الفخفاخ، منسجمةً معه أو مع حلفائها المفترضين، كما لم يبادر شركاؤها إلى العمل على تمتين الثقة معها، بل كانت الانتقادات المتبادلة والعلنية سمة بارزة للعلاقة بين مكونات الحكومة الحالية، وهي وضعية عاشتها الحركة عندما قادت الائتلاف الحكومي في تونس ما يزيد عن عامين بعد انتخابات 2011، ولكن بتضامن حكومي أكبر حينها. المستجد هنا أن قدرة "النهضة" على إدارة الاختلاف تبدو أقل بكثير من السابق، في ظل ما تفرضه توازناتها الداخلية الجديدة. لكن ذلك كله لا يعني أن الحركة ستسلم بسهولة في موقع المشاركة في الحكم، والاستمرار في ائتلافٍ تفرضه الضرورة، فالصلح بعد انطلاق إجراءات الطلاق ممكن، لأن عكس ذلك يعني تعميق الأزمة السياسية في البلاد التي يُتوقع أن تشهد واحدةً من أصعب الأزمات الاقتصادية خلال الأشهر المقبلة بسبب جائحة كورونا، خصوصا في غياب سيناريوهات واضحة ومضمونة النتائج.