"النسور الصغيرة".. التحليق بخفّة دم

20 مايو 2017
(فيلم: النسور الصغيرة)
+ الخط -
يصطحبنا مبدعو الأفلام عادة إلى عالمهم، ليجعلونا نرى النتائج التي وصلوا إليها في السابق. ولكن في الفيلم الوثائقي النسور الصغيرة يصطحبنا المخرج محمد رشاد إلى رحلة لا يعلم نهايتها. رحلة عن اكتشاف ذاته وحياة والده، وحياة أصدقائه وآبائهم.

يمكن القول، إن الفيلم يؤرّخ لانعكاس هزيمة ثورتي 1977 الشهيرة، بانتفاضة الخبز وثورة 25 يناير علي حياة معاصريهم. ولكن جيل مقاومة اتفاقية كامب ديفيد وانتفاضة 77 تعامل مع هزيمته، أما جيل ثورة 25 يناير فهو يشهد الهزيمة الآن، وبالتالي لم يصلوا لحالة الاستقرار النوعي.

قصّة الفيلم تدور حول محمد رشاد ابن العامل البسيط (مكوجي) الذي يعيش في مدينة الإسكندرية، ويطمح في الانتقال لمدينة القاهرة لتعلّم الإخراج. وفي القاهرة يتعرّف إلى صديقيه سلمي سعيد وبسام مرتضى، وهم أبناء المناضلين اليساريين سعيد أبو طالب ومحمود مرتضى، اللذين تعرّضا للظلم والاعتقال في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.

يسكتشف محمد رشاد حياة والدي صديقيه، وفي الوقت نفسه يقرّر اكتشاف حياة والده المجهولة بالنسبة له. وهل في حياة والده جوانب بطولة وقرارات مصيرية خاضها كما خاضها والدا صديقيه.

إذن فالفيلم به ثلاثة خطوط؛ خط جيل 25 يناير، وخط جيل السبعينيات، وخط والد محمد رشاد. ويُعتبر الخط الأخير هو الخط الرئيسي في الفيلم، فيبدأ الفيلم بإعلان العلاقة المتوتّرة بين المخرج الواعد الذي ترك العمل في مجال الهندسة من أجل الإخراج، ووالده المعترض على توجّه ابنه للعمل في السينما.

فالعلاقة بين المخرج وأبيه فاترة منذ الصغر. حيث يقول إنه لم يخرج مع والده أبدًا ولايتحدّثون كثيرًا عن أمور الحياة. وفي هذا الفيلم قرّر اكتشاف جوانب والده المجهولة بالنسبة له، هل ضحى وأخذ قرارت مصيرية مثل والدي صديقيه؟

الحقيقة أن والد محمد رشاد كان مفاجأة الفيلم، فاستطاع السيطرة على الشاشة بخفّة دمه التلقائية غير المصطنعة، وقدرته على الحكي بلا خجل من الكاميرا، وانطلاقه من موضوع لآخر بسلاسة.

فيلم كان مخططًا له (حسب قول مخرجه) أن يكون عن أصدقائه وأهلهم، فإذا بالعامل البسيط يتصدّر المشهد. الجميل في هذا الرجل أنه يكشف لك شكلًا جديدًا من أشكال التضحية، تضحية ربما لا يعي أنه فعلها ولكن المشاهد يدركها –ومحمد رشاد في الآن نفسه- يدرك ما قدمه والده البسيط، ربّما بساطته تلك هي التي لم تجعله يبرز تضحياته.

هناك جيل من المناضلين واجهوا سياسيًا انفتاح السادات الاقتصادي واتفاقية كامب ديفيد، وعلى جانب آخر، هناك جيل من البسطاء واجه هذه السياسات بعدم الانسياق لتوجّهاتها الجديدة. فرفض والد رشاد الانتقال للخليج والاغتراب عن زوجته وأولاده، وتحمُّل الأعباء الاقتصادية لهذا القرار الشجاع، لهو شكل من أشكال النضال التي لم تركز عليها السينما المصرية.

أما خط مناضلي السبعينات ومثلهم في الفيلم سعيد أبو طالب ومحمود مرتضى، وكلاهما تعرّض للاعتقال كما تعرّض الأول للتعذيب. فقد كانوا تلقائيين في أسلوب حكيهم القصص.

وهنا ظهر دور المخرج محمد رشاد كمحاور جيّد فأسئلته الذكية ساعدتهم في إخراج كل ما في قلبهم من معاناة وأسئلة إنسانية صعبة عاشوها بعد اعتقالهم. مثل شعور سعيد أبو طالب بالذنب ناحية صديقة العامل، فكان يحدّثه دائما عن حقوقه وضرورة النضال من أجلها فاستجاب له العامل البسيط وذلك أدى لاعتقاله.

هنا، يقوم محمد رشاد بقرار ذكي بتتبّع هذه القصّة، فقام بتسجيل لقطات تجمع بين ابن هذا العامل الذي توفي وسعيد أبو طالب. أما محمود مرتضى فبعد الاعتقال بدأ يشعر بالذنب ناحية أولاده لأنه لم يقم بفعل شيء يؤمّن مستقبلهم.

لحظات من الاهتزاز النفسي والمعنوي عاشها جيل الآباء، ولكنهم في النهاية استطاعوا تجاوز ذلك وإكمال حياتهم بشكل مستقرّ إلى حدّ كبير. إلى أن قامت ثورة 25 يناير وتكرّر التاريخ مع أولادهم أبناء جمعية "النسور الصغيرة".

"النسور الصغيرة" هي جمعية أسّسها مجموعة من النشطاء اليساريين لتجميع أطفالهم لتلقي مواد تعليمية سياسية، والخوض في نقاشات عن حقوق الإنسان وقضايا الحريّة وغيرها من الأمور. ومن تلاميذ "النسور الصغيرة" سلمي وبسام. على الرغم من بداية تصوير الفيلم في 2012 ولكن قرّر رشاد تأجيل تصوير مشاهد الأبناء إلى ما بعد استقرار الأوضاع السياسية في مصر، سواءً بهزيمة الثورة أو انتصارها النوعي.

هُزمت ثورة 25 يناير مؤقتًا بعد أحداث 30 يونيو 2013، وقبض على الكثير من النشطاء من أصدقاء سلمي وبسام. استأنف رشاد التصوير في لحظة هزيمة واهتزاز كبيرة ظهرت على سلمي وبسام. مصر هي بلد هزائم الحالمين الفعالين، وبالإضافة لكونه فيلمًا عن التسامح بين الأجيال واحترام خصوصية كل تجربة. إلا أنه يمكن اعتباره فيلمًا عن هزيمة الحالمين.

"النسور الصغيرة" هو فيلم إنساني من الطراز الأوّل، برع فيه رشاد بأقل الإمكانات المتاحة في اصطحابنا لحكايات كثيرة هو نفسه لم يكن يعلم إلى أين ستأخذه.

قام المخرج بتصوير بعض المشاهد المكتوبة سلفًا لترمز لعبارة يقولها، أو إجابة خفية عن سؤال حائر. كمشهد وجوه المانيكانات في البداية. ومشهد مدينة الملاهي الذي أظهر فيه إمكاناته كمخرج يستطيع تكوين كادر سينمائي مميّز بإمكانات تصويرية بسيطة. كما أنه نجح في اختيار الحكايات المناسبة التي ستظهر في فيلمه من بين الساعات الكثيرة التي سجلها في أماكن متعددة ومع شخصيات كثيرة.

السينما التسجيلية والوثائقية المستقلّة المصرية، قدمت بعد الثورة أعمالًا كثيرة مميزة، ونجحت في المنافسة على جوائز المهرجانات السينمائية وعرضت في دول أوربية كثيرة. و"النسور الصغيرة" يكمل مسيرة النجاح هذه، فاستحق الدخول في المسابقة الرسمية لمهرجان دبي، كما حصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الأقصر، وعُرض في ألمانيا وتونس والإمارات.

المساهمون