19 أكتوبر 2019
"الناتو" وروسيا.. وتركيا وسورية
أصبحت سورية مسرحاً من مسارح الصراع بين الغرب وروسيا، حيث دخل، أخيراً، حلف الناتو على الخط في سياق التوتر بين روسيا وتركيا، عقب إسقاط مقاتلات تركية مقاتلة روسية، ورفض أنقرة أي اعتذار، عكس التقليد السائد في الحوليات الدبلوماسية. وعلى الرغم من أن الأزمة السورية تهم أيضاً القوى المتدخلة، بشكل أو بآخر، فإن سورية أصبحت مطية لمواصلة الصراع الدائر بين روسيا والقوى الغربية و"الناتو". وسبق أن قلنا إن كل طرف يتحرك في سورية، وعيونه على أوكرانيا، بشكلٍ تنحو فيه الأزمة السورية إلى أن تصبح امتداداً للأزمة الأوكرانية.
في ظل التصعيد بين روسيا وتركيا، بسبب الأزمة السورية، والوعد والوعيد بينهما، أعلنت القوى الغربية و"الناتو" التزامها بأمن تركيا، وإمدادها بمعدات عسكرية جديدة و(إعادة) نشر منظومة صواريخ باتريوت على أراضيها. في إطار هذا الضغط على روسيا، ومحاولة الحد من نفوذها فتح الحلف الأطلسي، مجدداً، قضية التوسيع بإعلانه إعادة فتح ملف انضمام جمهورية الجبل الأسود (استقلت عن صربيا في 2006، وطلبت انضمامها إلى الناتو في 2009، سنة انضمام ألبانيا وكرواتيا إلى الحلف). حيث دعا وزراء خارجة دول "الناتو" في اجتماعهم في بروكسل، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2015، الجبل الأسود إلى الانضمام للحلف، على أن يتم ذلك في غضون 18 شهراً. إنه تحول في العلاقة مع هذه الجمهورية التي قصفها "الناتو" خلال الحملة الأطلسية على صربيا في 1999 لحماية ألبان إقليم كوسوفو الذي انفصل عن الأخيرة، وأصبح دولة مستقلة.
استبق الحلفاء رد الفعل الروسي بالقول إن هذا القرار غير موجه ضد روسيا، وإنما قرار سيادي للجبل الأسود. بالطبع، رأت روسيا التي طالما عارضت توسيع "الناتو" شرقاً في هذه القرار استفزازاً لها. وهذا من باب التصعيد الدبلوماسي، لأنها تعلم أن في توقيت القرار مغازيَ ورسائلَ موجهة إليها، فبالنظر إلى الطبيعة الخلافية لقضية توسيع "الناتو" شرقاً، فمجرد إثارتها، اليوم، يكفي لإحداث توتر في العلاقة الروسية-الغربية. وتعلم القوى الغربية ذلك، لكنها تعمدت توظيف هذه الورقة لإضعاف موقف روسيا وفتح جبهة، دبلوماسية على الأقل، لتشتيت قواها وربما لمقايضةٍ، ولو ظرفية: التهدئة مع تركيا مقابل العدول المؤقت عن قرار ضم الجبل الأسود إلى "الناتو" (وإن كان انضمامه قادماً لا محالة، لأن الحلف ينوي ضم دول البلقان الغربي).
ومن ثم، من الصعب قراءة الدعوة الأطلسية للجبل الأسود، بمعزل عن الصراع الدائر حول
وفي كل من أوكرانيا وسورية، وعن الأزمة الروسية-التركية الأخيرة. وتلعب روسيا، هي الأخرى، لعبة التهويل بشأن القرار الأطلسي، لكن الواقع أن الجبل الأسود لا يحظى بأهمية إستراتيجية، في توجهاتها الدولية على عكس صربيا، على الرغم من حجم الاستثمارات الروسية فيه، كما أن هذه الجمهورية ليست لها قيمة إستراتيجية بالنسبة لحلف الناتو، إلا أن ضمها ضروري لتوسيعه شرقاً، بداية بالبوسنة، ليكمل "الناتو" بذلك التواصل الجغرافي بين دوله الأعضاء في جنوب شرقي أوروبا. وهنا، يكمن ربما الهدف الإستراتيجي لحلف الناتو، أي ضم دول البلقان الأخرى، لسد الفراغ بين بعض دوله الأعضاء، ولغلق المنطقة تماماً أمام النفوذ الروسي، خصوصاً إن انضمت صربيا إلى الاتحاد الأوروبي، ما سيمهد لانضمامها للحلف الأطلسي.
إذا كان هذا القرار يدل على تضامن واضح مع تركيا، وتصلب في المواقف حيال روسيا وعلى توظيف الأزمة التركية-الروسية مطية للذهاب بمشروع توسيع الحلف في البلقان، فإنه يأتي، أيضاً، في سياق معقد. فمن جهةٍ، تقربت فرنسا كثيراً من روسيا، عقب هجمات باريس، وأصبحت تعترف بروسيا شريكاً في الحرب على داعش، بل وتنادي بائتلاف دولي واحد، ما يعني شرعنة التدخل الروسي في سورية، من منظور غربي (هذا لا يعني طبعاً أن التدخل الغربي فيها شرعي أصلاً). ومن جهة ثانية، هناك دول أعضاء عديدة في "الناتو" ممتعضة من السياسة التركية حيال الأزمة السورية، ومن توظيفها لها، لتصفية حساباتها مع الأكراد (ومن التوجهات التسلطية لحكومة أردوغان). فضلاً عن ذلك، ليس الدعم الأطلسي لتأمين حدود تركيا مع سورية موجهاً بالضرورة ضد روسيا، بل قد يحمل في ثناياه إقراراً غربياً بالاتهامات الروسية لتركيا. وبالتالي، قد يكون التأمين الغربي لهذه الحدود محاولة لمراقبة الحركة على طرفيها (وهو أمر لم تأخذه تركيا محمل الجد، وهذا ما يفسر تنقل الجهاديين الأجانب بسهولة)، ومحاولة أيضاً لعرقلة تنقل هؤلاء الجهاديين، والحد منه، ومن ثم فالتدابير الأمنية والعسكرية الأطلسية التي تبدو، من الوهلة الأولى، موجهة ضد روسيا، تدل، في الواقع، على عدم ثقة في الطرف التركي. حتى وإن كانت نية نشر منظومة صواريخ الباتريوت في الأراضي التركية تشير إلى عكس ذلك.
من الواضح أن القوى الغربية و"الناتو" في حيرة من أمرها. فهي، من جهة، ملزمة بحكم ميثاق الحلف الأطلسي بالتضامن مع تركيا، والدفاع عنها، وهي بحاجة إليها في الحرب على داعش، وفي استقبال اللاجئين للحيلولة دون مجيئهم إلى أوروبا، وفي تسوية الأزمة السورية، ومن جهة أخرى، هي بحاجة إلى روسيا في الحرب على داعش، وفي تسوية الأزمة السورية. وربما تصدق عليها، أحياناً، مقولة "عدو عاقل خير من صديق جاهل"، بالنظر إلى توريط تركيا لها في صراعات مع روسيا، هي في غنى عنها، خصوصاً أن هذه القوى توصلت إلى قناعةٍ، فحواها أن لا حل في سورية بدون إشراك روسيا، وحتى إيران. ويبدو أن تركيا تسيء تقدير الرهانات الإستراتيجية، ذلك أن الصراع بين القوى الغربية وروسيا يتجاوز التوتر التركي-الروسي والأزمة السورية.
في ظل التصعيد بين روسيا وتركيا، بسبب الأزمة السورية، والوعد والوعيد بينهما، أعلنت القوى الغربية و"الناتو" التزامها بأمن تركيا، وإمدادها بمعدات عسكرية جديدة و(إعادة) نشر منظومة صواريخ باتريوت على أراضيها. في إطار هذا الضغط على روسيا، ومحاولة الحد من نفوذها فتح الحلف الأطلسي، مجدداً، قضية التوسيع بإعلانه إعادة فتح ملف انضمام جمهورية الجبل الأسود (استقلت عن صربيا في 2006، وطلبت انضمامها إلى الناتو في 2009، سنة انضمام ألبانيا وكرواتيا إلى الحلف). حيث دعا وزراء خارجة دول "الناتو" في اجتماعهم في بروكسل، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2015، الجبل الأسود إلى الانضمام للحلف، على أن يتم ذلك في غضون 18 شهراً. إنه تحول في العلاقة مع هذه الجمهورية التي قصفها "الناتو" خلال الحملة الأطلسية على صربيا في 1999 لحماية ألبان إقليم كوسوفو الذي انفصل عن الأخيرة، وأصبح دولة مستقلة.
استبق الحلفاء رد الفعل الروسي بالقول إن هذا القرار غير موجه ضد روسيا، وإنما قرار سيادي للجبل الأسود. بالطبع، رأت روسيا التي طالما عارضت توسيع "الناتو" شرقاً في هذه القرار استفزازاً لها. وهذا من باب التصعيد الدبلوماسي، لأنها تعلم أن في توقيت القرار مغازيَ ورسائلَ موجهة إليها، فبالنظر إلى الطبيعة الخلافية لقضية توسيع "الناتو" شرقاً، فمجرد إثارتها، اليوم، يكفي لإحداث توتر في العلاقة الروسية-الغربية. وتعلم القوى الغربية ذلك، لكنها تعمدت توظيف هذه الورقة لإضعاف موقف روسيا وفتح جبهة، دبلوماسية على الأقل، لتشتيت قواها وربما لمقايضةٍ، ولو ظرفية: التهدئة مع تركيا مقابل العدول المؤقت عن قرار ضم الجبل الأسود إلى "الناتو" (وإن كان انضمامه قادماً لا محالة، لأن الحلف ينوي ضم دول البلقان الغربي).
ومن ثم، من الصعب قراءة الدعوة الأطلسية للجبل الأسود، بمعزل عن الصراع الدائر حول
إذا كان هذا القرار يدل على تضامن واضح مع تركيا، وتصلب في المواقف حيال روسيا وعلى توظيف الأزمة التركية-الروسية مطية للذهاب بمشروع توسيع الحلف في البلقان، فإنه يأتي، أيضاً، في سياق معقد. فمن جهةٍ، تقربت فرنسا كثيراً من روسيا، عقب هجمات باريس، وأصبحت تعترف بروسيا شريكاً في الحرب على داعش، بل وتنادي بائتلاف دولي واحد، ما يعني شرعنة التدخل الروسي في سورية، من منظور غربي (هذا لا يعني طبعاً أن التدخل الغربي فيها شرعي أصلاً). ومن جهة ثانية، هناك دول أعضاء عديدة في "الناتو" ممتعضة من السياسة التركية حيال الأزمة السورية، ومن توظيفها لها، لتصفية حساباتها مع الأكراد (ومن التوجهات التسلطية لحكومة أردوغان). فضلاً عن ذلك، ليس الدعم الأطلسي لتأمين حدود تركيا مع سورية موجهاً بالضرورة ضد روسيا، بل قد يحمل في ثناياه إقراراً غربياً بالاتهامات الروسية لتركيا. وبالتالي، قد يكون التأمين الغربي لهذه الحدود محاولة لمراقبة الحركة على طرفيها (وهو أمر لم تأخذه تركيا محمل الجد، وهذا ما يفسر تنقل الجهاديين الأجانب بسهولة)، ومحاولة أيضاً لعرقلة تنقل هؤلاء الجهاديين، والحد منه، ومن ثم فالتدابير الأمنية والعسكرية الأطلسية التي تبدو، من الوهلة الأولى، موجهة ضد روسيا، تدل، في الواقع، على عدم ثقة في الطرف التركي. حتى وإن كانت نية نشر منظومة صواريخ الباتريوت في الأراضي التركية تشير إلى عكس ذلك.
من الواضح أن القوى الغربية و"الناتو" في حيرة من أمرها. فهي، من جهة، ملزمة بحكم ميثاق الحلف الأطلسي بالتضامن مع تركيا، والدفاع عنها، وهي بحاجة إليها في الحرب على داعش، وفي استقبال اللاجئين للحيلولة دون مجيئهم إلى أوروبا، وفي تسوية الأزمة السورية، ومن جهة أخرى، هي بحاجة إلى روسيا في الحرب على داعش، وفي تسوية الأزمة السورية. وربما تصدق عليها، أحياناً، مقولة "عدو عاقل خير من صديق جاهل"، بالنظر إلى توريط تركيا لها في صراعات مع روسيا، هي في غنى عنها، خصوصاً أن هذه القوى توصلت إلى قناعةٍ، فحواها أن لا حل في سورية بدون إشراك روسيا، وحتى إيران. ويبدو أن تركيا تسيء تقدير الرهانات الإستراتيجية، ذلك أن الصراع بين القوى الغربية وروسيا يتجاوز التوتر التركي-الروسي والأزمة السورية.