وتداول عراقيون، يومَي السبت والأحد، عشرات الصور لقصور بغداد الرحاب، والرشيد، والفردوس، والنهاية، والسجدة، والعباسي، والجمهوري، وغيرها، فضلاً عن حدائق دجلة وشوارع نظيفة لا يزال الإسفلت فيها خالياً من آثار عمليات التفجير. فلا أثر لعبوات ناسفة أو سيارات مفخخة أو حتى حواجز إسمنتية كباقي شوارع بغداد. كما أن علامات الدلالة للشوارع والمناطق واتجاهات الطرق فيها هي نفسها التي كانت قبل الاحتلال. فتجد تقاطع الأندلس، وساحة الخرطوم، ونصب المقاتل العراقي، وقوس النصر، وغيرها من الأسماء التي كاد العراقيون أن ينسوها، ولم يعرفها الجيل الجديد منهم.
ولا يزال المئات من أتباع الصدر يتجوّلون داخل المنطقة الخضراء في مناطق عدة، وسط حرص من قوات الأمن على عدم الاحتكاك بهم، والتعويل على حلّ سياسي لإخراجهم بعد اقتحامهم المنطقة الخضراء. وسجلت عمليات اختفاء لتحف، وتماثيل، وآثاث في شوارع وحدائق المنطقة الخضراء بعد دخول المتظاهرين.
وفي الوقت الذي ينشر فيه المتظاهرون صوراً ولقطات عبر مواقع التواصل لتواجدهم في المنطقة الخضراء، مع تعليقات لا تخلو من السخرية والتهكم، جالت "العربي الجديد" في المنطقة للوقوف على آراء العراقيين. يقول محمد فاضل (34 عاماً) لـ"العربي الجديد" إن "الحياة هنا مختلفة كأن المكان ليس قطعة من العراق"، مضيفاً "هنا كل شيء موجود؛ كهرباء مستمرة على مدار الساعة، وحدائق، وأسواق، ومنتجعات وأي شيء ترغب به، حتى وجوه من يعيش فيها ناعمة وكأنهم ليسوا عراقيين" مبيناً أن "الترف الموجود هنا، والذي يعيش فيه السياسيون، مذهل".
أمّا فوزي الأحبابي (21 عاماً) يقول لـ"العربي الجديد" إنها "المرة الأولى التي أدخل فيها المنطقة الخضراء على الرغم من أني أسكن على بعد 2 كيلومتر عنها"، مضيفاً أنّ "من يسمع تصريحات السياسيين وشعاراتهم ويرى عيشتهم ورخاءهم هنا، يجب ألا يصدقهم بعد اليوم". وحتى مساء أول من أمس السبت، كان القرار 124 الصادر عن الحاكم المدني بول بريمر سارياً بمنع التصوير داخل هذه المنطقة، إلّا أن اقتحام المنطقة أباح كل شيء أمام العراقيين لمشاهدة جزءٍ من بغداد لطالما نسجت عنه الحكايات والقصص كصندوق مغلق يحوي على آخر معالم العراق الجميل.
يصف القيادي في الحزب الشيوعي العراقي خليل السعدي لحظة اقتحام المنطقة الخضراء بأنها "لحظة اكتشاف حقيقة حياة الساكنين فيها"، ويضيف السعدي أنّ "أكثر ما أثار غضب العراقيين هو مستوى المعيشة الحالية للسياسيين العراقيين، خصوصاً الأحزاب الدينية التي صدعت رؤوس الشعب بعبارات الزهد والتقوى وشعارات بناء الوطن والتضحية بالدم من أجله". ويؤكد السعدي لـ"العربي الجديد" أن "الوضع بعد اقتحام المنطقة الخضراء لن يكون مثل قبله بالتأكيد، فالمنطقة الأكثر مهابة بالعراق بعد الاحتلال صارت مهانة ومكشوفة".
ووفقاً لمصادر أمن عراقية، فإن غالبية عائلات المسؤولين الساكنين بالمنطقة الخضراء غادرتها بعد الاقتحام إلى مناطق أخرى، تاركين خلفهم ما يشير إلى حياة الترف التي يعيشونها مثل السيارات الغالية، والزوارق، وواجهات المنازل المحفورة بالنقوش العباسية والمغربية.
المنطقة الخضراء هو اسم دخيل على جغرافية بغداد منذ تأسيسها في القرن السابع الميلادي. هي عبارة عن ثلاثة أحياء سكنية متجاورة تقع في قلب العاصمة، وتتوسط جانبَي الكرخ والرصافة على نهر دجلة. تم اقتطاعها وإحاطتها بأسوار إسمنتية عالية بعد أيام من الغزو الأميركي للبلاد عام 2003. تقع بداخلها القصور التاريخية لبغداد التي ظلت الأنظمة الحاكمة لها تتخذها مقراً لها منذ قرون طويلة بدءاً من العباسيين وما تلاهم مروراً بالعثمانيين، ثم الاحتلال البريطاني، إذ اتخذ الجنرال ستنالي مود حاكم العراق، آنذاك، قصر السلام الحالي مقراً له بعدما كان مقراً للحاكم العثماني مدحت باشا.
انتقلت البلاد إلى الحكم الملكي ليكون قصر الرحاب الواقع حالياً ضمن المنطقة الخضراء مقراً للعائلة الهاشمية الحاكمة للعراق قبل أن يطاح بها بانقلاب عسكري قاده عبد الكريم قاسم الذي ما لبث أن أسقط بانقلاب آخر قاده عبد السلام عارف وحزب البعث العربي الاشتراكي، وانفرد الأخير بالحكم منذ عام 1968 حتى احتلال البلاد وإطاحة الرئيس الراحل صدام حسين. وصل الحاكم المدني بول بريمر ليستقر في قصر الرحاب كمقر حكم له قبل أن يأمر باقتطاع المناطق المجاورة وضمّها في مربع واحد أطلق عليه اسم المنطقة الخضراء، ليعبر من خلاله عن باقي مناطق العراق التي كانت تغطيها النيران وسحب الدخان من البصرة وحتى الأنبار غرباً.
كان أغلب سكان المنطقة التي تحوي عمارات ومتاجر ودوراً سكنية هم من العراقيين المسيحيين. المنطقة بأغلبيتها كانت تعرف باسم "كرادة مريم" نسبة إلى السيدة مريم العذراء. وكانت مركزاً تجارياً مهماً وتحوي شبكة طرق كبيرة تربط جانبَي بغداد، فضلاً عن الجسر المعلّق الذي يعتبره البغداديون رمز أو معلم عاصمتهم كما في بقية العواصم الأخرى التي يفتخرون بشيء معيّن فيها.
قامت القوات الأميركية بإخلاء المواطنين من المنازل والشقق السكنية في المنطقة وتعويضهم بمبالغ مالية بقيمة 1000 دولار شهرياً لاستئجار غيرها، على اعتبار أنها صارت ضمن منطقة الحاكم العسكري الأميركي للعراق بعد الاحتلال. يبلغ عدد تلك الدور والشقق السكنية أكثر من 9 آلاف وحدة. طردت جميع عائلاتها منها، ولم تُمنح خيار الرفض. استُغلّت تلك الوحدات في ما بعد لعائلات الدبلوماسيين والمسؤولين الأجانب الأميركيين منهم على وجه التحديد. وسرعان ما انتقلت هذه الوحدات إلى أعضاء البرلمان، ورؤساء الأحزاب والكتل السياسية، والوزراء، والمسؤولين المهمين في الدولة. لم تدفع الحكومة العراقية بسخاء لأصحاب المنازل والشقق السكنية بعد مغادرة الأميركيين، إذ خفّضت سعر الإيجار الشهري، وعادة ما تتأخر في تسدديه لهم، ويُمنعون من دخولها كباقي العراقيين.
تبلغ مساحة المنطقة الخضراء نحو 22 كيلومتراً، ومحاطة بثلاثة أسوار إسمنتية عالية. حُدّدت معالم المنطقة الجديدة، وفُتح لها خمس بوابات، كل واحد مخصص لدخول فئة، مثلاً العسكريون من باب، والبرلمانيون يدخلون من آخر، وأعضاء البعثة الدبلوماسية من باب، وأعضاء الحكومة من باب آخر. وتضم المنطقة ثمانية قصور رئاسية، بعضها تاريخي يعود لقرون طويلة، وبعضها لا يتجاوز عمره أربعين عاماً، أبرزها: قصر الرحاب، والقدس، والسلام، والجمهوري، والسجدة، والنهاية، وغالبيتها موزعة في المنطقة على نهر دجلة، فضلاً عن فنادق فخمة مثل الرشيد، وقصر المؤتمرات. وتضم المنطقة قوس النصر الذي شُيّد من خوذ الجنود الإيرانيين بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، ويضم مستشفى ابن سينا، ونصب الجندي المجهول، فضلاً عن حدائق للعائلات، ومدينة ألعاب، واستراحات بين المنازل والشقق القريبة.