"الكاليغولات" الجدد في العراق

24 يونيو 2015
+ الخط -
يروى عن كاليغولا، الإمبراطور الروماني المعروف بوحشيته وجنونه، أنه كان يردد في مجلسه "أشعر بالوحدة في اليوم الذي لا أقتل فيه أحداً، ولا أحس بالراحة إلا بين الموتى".
بين طبقة السياسيين الذين يحكمون العراق، وكذا بين قادة المليشيات السوداء التي أصبحت بديلاً لسلطة الدولة أكثر من "كاليغولا" واحد، فمعظمهم يقول إنه لن يرتاح إلا بعد إعدام السجناء المحكومين بالإعدام، وعددهم يتجاوز سبعة آلاف، ولذلك، هو يطالب رئيس الجمهورية بالإسراع في تصديق الأحكام. وعندما يرفض الرئيس، موضحاً أن عدد الذين ثبتت إدانتهم فعلاً بتهمة "الإرهاب" لا يتجاوز 168، فيما ينبغي أن تخضع الأحكام الصادرة بحق البقية للتدقيق، يعترض المطالبون بسرعة إزهاق الأرواح، وينزل رئيس الحكومة، حيدر العبادي، عند طلبهم، مخولاً وزارة العدل تنفيذ الأحكام خلال 30 يوماً في حال عدم مصادقة الرئاسة.
هنا نستذكر هتلر وستالين وموسوليني وتشاوشيسكو وعيدي أمين، وآخرين صنفوا على أنهم "مصاصو دماء"، لأنهم كانوا سببا في فقد آلاف من مواطنيهم حيواتهم، وقد يضيف العراق إليهم بضعة أسماء معروفة من الطبقة الحاكمة، ومن قادة المليشيات، تسعى اليوم إلى إزهاق أرواح سبعة آلاف مواطن، وقع معظمهم ضحايا محاكم جائرة، اعتمدت على تقارير كيدية من "مخبرين سريين"، وانتزعت من بعضهم "اعترافات" كاذبة تحت وطأة التعذيب.
وبالطبع، غالبية هؤلاء المحكومين من مكون طائفي معين، ومن مدن معينة، وهذا يزيد من علامات الاستفهام حول الهدف من ترويج مذبحة تقوم على اتهامات مشكوك في صحتها أصلاً، ومعتمدة على قرارات لقضاء مسيس، لغايات طائفية ومذهبية معروفة، وبحسب ما ذكره تقرير موثق أعدته "نيويورك تايمز"، فإن معظم هؤلاء "تم احتجازهم بناء على معلومات قدمها مخبرون سريون، ...، وهناك مئات الأسر ممن يبحثون عن مصير أبنائهم اليوم الذين اعتقلوا من دون أوامر قضائية، وتعرضوا للتعذيب، وفرضت عليهم اعترافات كاذبة انتزعت منهم بالقوة، وحكم عليهم بالإعدام نتيجة ذلك".
قالت "هيومان رايتس ووتش" إن المواطن العراقي أسير لثلاثة وحوش: داعش، والمليشيات السوداء، وأجهزة الدولة الأمنية التي تعتقل الأبرياء بحجة أنهم إرهابيون، وتعمل على تصفيتهم. ونقلت المنظمة عن (أم مريم) من المقدادية قولها إن مسلحين يرتدون زياً أسود خطفوا ولديها أمام أنظارها، وحين شكتهم إلى قسم الشرطة في منطقتها، قال لها المسؤول إنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، بعد يومين تلقت الأسرة هاتفياً خبر إعدام ولديها لأنهما "إرهابيان"!

ورأت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن ظاهرة الاختطاف والقتل التي انتشرت في سنوات الحرب الطائفية عادت إلى الظهور، بعد صدور فتوى ما سمي "الجهاد الكفائي" ضد داعش، حيث استغلتها المليشيات السوداء غطاءً لتصفيات طائفية ممنهجة.
يشعر "الكاليغولات" بالعزلة حين لا يقتلون أحداً، وقد ابتكروا مختلف الأساليب لتحقيق رغباتهم الشريرة. وأفاد محامون مستقلون دافعوا عن متهمين بالإرهاب، في بيان نشروه للرأي العام، بأن موكليهم، بعد احتجاز دام شهوراً، أفرج عنهم لعدم كفاية الأدلة. وبعد أسابيع من إطلاق سراحهم، تعرضوا للموت المفاجئ، وعرف المحامون من متابعاتهم أن بعض موكليهم تعرّضوا، وهم في مراكز الاعتقال، إلى دس السم البطيء المفعول في طعامهم، وحُقن آخرون بإبر سامة، وعرف أن ذلك يتم وفق خطة ممنهجة، خصوصاً في مراكز الاعتقال التي تخضع لسيطرة غير معلنة من المليشيات.
المفارقة المضحكة أن في العراق وزارة لحقوق الإنسان، واسم وزيرها محمد مهدي البياتي الذي دعا هو الآخر إلى سرعة إزهاق أرواح المحكومين بالإعدام، وهو أيضا أشاد بقرارات القضاء المصري بإعدام الرئيس محمد مرسي وآخرين، داعيا إلى احترامها وتنفيذها، لسبب واحد هو أن "القضاء المصري معروف باستقلاليته وعدم تأثره بالجوانب السياسية". المضحك أكثر قوله إن "القضاء المصري مشابه في إجراءاته القضاء العراقي"، ما يعطيه مصداقية أكبر في رأي معالي الوزير الذي يذكّرنا تصريحه هذا بتصريح سلفه، محمد شياع السوداني، الذي أبلغ وفد المغتربين العراقيين في هولندا "إن حقوق الإنسان في العراق أكثر تطوراً من حقوق الإنسان في هولندا".
وبعد، ألم نقل أن في العراق أكثر من كاليغولا واحد، آخرهم وزير حقوق الإنسان الذي يدافع عن حق الجلادين في إعدام ضحاياهم الأبرياء، والذي يهمنا أن نذكّره بقول كاليغولا، الذي ربما لم يسمع به: أدركت أن ليس من الضروري أن يرتكب إنسان ما إثما كي يحكم عليه بالإعدام.
في بلاد "الكاليغولات" هذه هي القاعدة.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"