"القاهرة للكتاب": الثقافة إذ تصبح أداة نفعية وسلعة

09 فبراير 2019
مقر المعرض الجديد
+ الخط -
اختتم "معرض القاهرة الدولي للكتاب" فعالياته، في دورته الخمسين، قبل أيام، وكأنه جاء ليعكس متغيرات كثيرة في الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي المصري.

مشهد المعرض المعتاد، ليس كما عهد رواده في زياراتهم السابقة، والتي امتدت لعقود طويلة حتى دورته "الذهبية"، التي فقدت، بالرغم من ذلك، بريقها ولمعانها والشغف الكبير الذي كانت تحصده، بعد غياب العوامل التي ارتبطت به.

لا يمكن حصر الأمر، فقط، في انتقال المعرض إلى ضاحية "التجمع الخامس"، رغم وجاهته، وصعوبة الوصول الميسر لها؛ حتى مع توفير "القوات المسلحة" إلى أتوبيسات لنقل زوار المعرض، لكنها كانت تتطلب ما لا يقل عن ساعة ونصف إلى ثلاث ساعات، وربما أكثر في أوقات الذروة، للوصول إلى عدة نقاط جغرافية داخل العاصمة المصرية المكتظة بالبشر والسيارات.

كما أن هذا الحي الموجود على أطراف القاهرة، يقع ضمن التكتلات السكنية، والمدن الجديدة، التي عرفتها القاهرة عبر ظاهرة "الكمبوندات" (نقيض ظاهرة العشوائيات)، وتعكس كلاهما التناقضات الطبقية في المجتمع، ومن ثم، تنامي التغييرات الديموغرافية، مع نهاية عهد الرئيس المخلوع مبارك، وتطورها، بصورة ملحوظة، في عهد عبد الفتاح السيسي (العاصمة الإدارية الجديدة، نموذجاً)، حيث تنتشر المجتمعات السكنية الصغيرة، بمنازلها المبنية على الطراز الأوروبي، بطابقين أو ثلاث على الأكثر، وحولها مساحات خضراء من الزهور والأشجار، وملاعب الغولف، وحمامات السباحة، كما تحاوطها الأسوار الخرسانية، وشركات الأمن الخاصة، فتتوافر لهم كافة الخدمات، من تعليم وصحة وأمن ورفاهية، بينما وجود الدولة يبدو مثل ظل باهت بلا أثر حقيقي.

إذاً، في هذا المحيط الذي تشكل على تخوم الفقر وفساد السلطة، والذي ترتب عليه ولادة طبقة اجتماعية هشة ومهجنة، ثقافياً وتعليمياً واجتماعياً، ومنفصلة عن مجمل المحيط الاجتماعي، وتكويناته، فلا تجمعها ذاكرة فيها عناصر مشتركة معه. لكنها تحتمي، فقط، بالنظام المتصلة به عضوياً، ليجيء المعرض في تلك المساحة الجغرافية بمثابة قلب في جسد اجتماعي، غير قادر على التعرف عليه أو قبوله.

قامت الدولة بمنع عدد من باعة الكتب وشيوخهم في "سور الأزبكية"، من نشر وعرض كتبهم، أو الاشتراك في المعرض، وكذا، سور النبي دانيال، الموجود في الإسكندرية؛ إذ أن تلك الأسوار المعروفة، في كل من القاهرة والإسكندرية، تكاد تكون ظاهرة في كل عواصم العالم، وسمة ثقافية مميزة، مثل شارع المتنبي في بغداد، ومثله في بيروت وباريس.

أسواق الكتب القديمة المنتشرة في عواصم ودول العالم، تعكس حضارية المدن وثقافتها وذاكرتها الحية والغنية، والتي تكون عبارة عن شارع يضم على جانبيه مكتبات خشبية قديمة، تحفظ داخلها مخطوطات وكتب قديمة ونادرة، ومجلدات تراثية، إلى جانب الإصدارات الحديثة، لكن، ذلك الأمر، ربما، لم يأت على مزاج السلطة، فشاءت أن يكون المعرض كمثل معارض الخليج، في أناقتها وبذخها الضخم وتكاليفها العالية، بدون قيمة حقيقية؛ فتصبح العملية الثقافية مجرد أداة استهلاكية ونفعية، وبلا إنتاج جاد ورصين.

أحد المثقفين المصريين، الذي رافقني خلال أحد أيام المعرض؛ وقف أثناء خروجنا من المعرض، بينما مساء القاهرة يبعث بقتامة شديدة، وهو يبرز لأول مرة صورة الضباط من الجيش والشرطة المنتشرين بكثافة بين مداخل بوابات المعرض، كأشباح يستقبلون الزوار، كما تصطف العربات المصفحة والدبابات التابعة للقوات المسلحة أمامها، وفوق كل منهما يخرج السلاح من نافذة ضيقة منتصباً في جهته، وردد سؤالاً وهو يتأمل غالبية الزوار الذين يخرجون بصورة عشوائية وجماعية: "لماذا يخرج كل هؤلاء وأياديهم فارغة من حقائب الكتب؟"

وفي الواقع، فإن المعرض هو بمثابة نزهة للعديد من الأسر المصرية الفقيرة، ومتوسطة الحال، يخرجون لمكان يشعرون فيه بحالة جماعية، تخفف من أعبائهم، يستعيرون داخلها بقليل من السعادة، ويتجولون بين أنشطته المجانية التي تتم من خلال مجموعات من الشباب المتطوعين، كتعليم الرسم للأطفال، وسماع بعض الأغنيات والأناشيد، أو عمل مسابقات ترفيهية، فضلاً عن المنشدين، الذين يقدمون فقرات في أوقات محددة.

بيد أن الملفت في المعرض هذا العام، هو وجود عدد من المطاعم الشهيرة، المعروفة في القاهرة بأنها ليست فقط "غالية"، لكنها مطاعم "النخبة"، والتي يرتادها هؤلاء لقضاء سهرة ممتعة على ضفاف النيل، بينما يصل ثمن الوجبة فيها لفرد واحد ما يقرب من خمسين دولاراً!

ومن نافل القول، الحديث عن أسعار الكتب سواء المحلية أو العربية، ويكفي القول إنني حصلت على سبعة كتب من دور نشر عربية، كلفتني بعد الخصم، الذي وصل لنحو 40 في المائة، إلى حوالي ألف وسبعمائة جنيهاً مصرياً (أي حوالي مائة دولار)، وهو بالمناسبة متوسط رواتب العديد من الصحافيين المصريين، حتى لا نخوض في الحالة الاقتصادية المتعثرة بالقاهرة.

* كاتب من مصر
المساهمون