"الفنار"، للأميركي روبرت إيغرز (1983)، يبقى طويلاً مع المُشاهد. مُشاهدته أكثر من مرة تفكّ ألغازاً عديدة فيه، وتكشف مستوياتٍ كثيرة، مُركّبة وعميقة، وتمنح متعة تأمّلية وفنية ثرية جداً، إنْ يستمتع المُشاهد بتأمّل جمالياته، أو يرصد تقلّبات النفس البشرية وخباياها وتعقيداتها.
لفرط إتقانه وأصالته، يصعب تصديق أنّه ثاني روائي طويل لمخرجه، وثاني تجربة له في كتابة السيناريو والحوار (بمشاركة شقيقه ماكس). فالمخرج قادم من المسرح والإنتاج وتصميم المناظر والملابس. موهبته ككاتب لافتة للانتباه، لإبداعه شخصيات حقيقية وعميقة، ذات أبعاد عديدة ومستويات مركّبة. تتجلّى موهبته أيضاً في صوغ الحوار، وكتابة جملٍ مُلهمة وساخرة ومريرة، وفي صوغ سيناريو متماسك، يتميّز بالجدّة والأصالة، ومُطعّم بكثيرٍ من الفولكلور والفلسفة والدين والأسطورة، من دون إثقال أو تكلّف. أسماء، كإيكاروس وبروميثيوس وبروتيوس وتريتون، تُذكَر عرضاً، أو يُستَشفّ حضورها في حوارات، أو يتبدّى ظلّها في مَشاهد، ما يوجد مستويات عديدة للتفاعل مع الفيلم وحوارته.
مُتع "الفنار" لا تنتهي، بين بدايته ونهايته. بفنّية شديدة، يُحاصر روبرت إيغرز المشاهدين في جزيرة نائية لـ109 دقائق، مع بطليه، فيعيشون واقعهما، كأنهم معهما. بل أكثر من ذلك: يتوحّدون معهما إلى درجة أنّهم يتنفّسون الروائح نفسها. هناك إحساس برذاذ الأمواج العاصفة، والمعاناة بسبب الأمطار والعواصف، واستنشاق "يود" البحر، ومكابدة الوحدة نفسها، ومُلامسة الجنون (حرفياً)، المُتجسّد في شخصيّتيهما.
في جانب كبير منه، يسبر "الفنار" بعمق وأصالة هلاوس العزلة والآثار والعوامل المترتبة على الشعور بالوحدة والخوف والحرمان العاطفي والكبت الجنسي، وطبعاً العزلة، التي تزيد هذا كلّه وتعمّقه، وتُفجّر الاضطراب والعنف في النهاية.
هل كانت الباخرة، التي نقلتهما ليلاً إلى الجزيرة في افتتاح الفيلم، تُشيِّعهما إلى العالم الآخر، أو إلى الجحيم، أو إلى أرض اليمبوس، أو المطهر؟ حتى بعد انتهائه، وتكرار مُشاهدته، يصعب الجزم بتأويلٍ قاطع لأسئلة كهذه، ولغيرها. مثلاً: هل أنّ بطلي الفيلم شخصية واحدة اسمها توماس، أم أنّهما شخصيتان، فعلاً؟ مع تطوّر الأحداث، وتشابك الصراع وتعقّده، هل حلّت إحداهما مكان الأخرى، أم هل تبادلتا الدورين؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأويلات وتفسيرات، وإلاّ، فإنّها تُعمِّق الحيرة أكثر.
الفيلم كابوسيّ، تدور أحداثه في تسعينيات القرن الـ 19، في جزيرة مهجورة مقابل ساحل ولاية "ماين" (نيو إنغلاند، شمال شرق الولايات المتحدة الأميركية). فيلم رعب "داخلي"، منوط بالروح لا بالجسد. فيلم عن الخوف وجنون العظمة والهلوسات والهذيان والعصاب. فيه، لا يُمكن التنبوء أبداً بما سيحدث لاحقاً، إذ يزخر بمنعطفات وصدمات وانقلابات يصعب تخمينها، كحالة الطقس والبحر، ما ينعكس على الحالة الذهنية للبطلين، ويخلق قدراً هائلاً من التشويق والإثارة والمتعة، رغم القسوة والخوف والاضطراب والحزن.
توماس ويك (ويليام دفَو) بحّار سابق. يعاني إصابة غامضة في ساقه. مُتقلّب المزاج والشخصية. غالباً لا يتّسق حديثه أو ذكرياته أو أفعاله. رغم بساطته وانفتاحه وحبّه الظاهريّ للثرثرة، فإنّ شخصيته غامضة ومُحَيّرة: هل يُخفي شيئاً، أم أنّها طبيعته؟ ماذا عن إصابته وماضيه وأسرته، وحياته عامة؟ ماذا عن السرّ المُتعلّق بمساعده السابق، الذي يقال إنه مات مجنوناً، جرّاء رؤى غامضة كانت تنتابه؟ لا شيء مؤكّداً، بل تلميح إلى أن توماس قتله. لكن، لماذا؟ أمن أجل مكانته كحارسٍ للضوء؟ ما قصّة تشبّثه الموتور بضوء الفنار؟ أهو نار أولمبية؟
توماس هاورد (روبرت باتينسن) شاب في بداية حياته المهنية كبحّار. يتّسم بالهدوء ورباطة الجأش. يتمتّع بسلامة بدنية. مطيع وشديد الامتثال للأوامر بشكلٍ مريب. يقبل الاضطلاع بالأعمال الوضيعة، خلال عمله مع رئيسه لـ4 أسابيع: تنظيف الأرض وكلّ ما يتعلق بالفنار، التخلّص من الأوساخ وغيرها. وأيضاً، فإنّ الشاب يتحمّل توماس ويك، الذي لا يُطاق أصلاً. يُشاركه الطعام والشراب وحجرة النوم. ورغم مهماته الكثيرة، يُحرّم عليه الصعود، أو الاقتراب من حجرة الضوء في الفنار، فهي حكرٌ على سيّده.
اقــرأ أيضاً
لفرط إتقانه وأصالته، يصعب تصديق أنّه ثاني روائي طويل لمخرجه، وثاني تجربة له في كتابة السيناريو والحوار (بمشاركة شقيقه ماكس). فالمخرج قادم من المسرح والإنتاج وتصميم المناظر والملابس. موهبته ككاتب لافتة للانتباه، لإبداعه شخصيات حقيقية وعميقة، ذات أبعاد عديدة ومستويات مركّبة. تتجلّى موهبته أيضاً في صوغ الحوار، وكتابة جملٍ مُلهمة وساخرة ومريرة، وفي صوغ سيناريو متماسك، يتميّز بالجدّة والأصالة، ومُطعّم بكثيرٍ من الفولكلور والفلسفة والدين والأسطورة، من دون إثقال أو تكلّف. أسماء، كإيكاروس وبروميثيوس وبروتيوس وتريتون، تُذكَر عرضاً، أو يُستَشفّ حضورها في حوارات، أو يتبدّى ظلّها في مَشاهد، ما يوجد مستويات عديدة للتفاعل مع الفيلم وحوارته.
مُتع "الفنار" لا تنتهي، بين بدايته ونهايته. بفنّية شديدة، يُحاصر روبرت إيغرز المشاهدين في جزيرة نائية لـ109 دقائق، مع بطليه، فيعيشون واقعهما، كأنهم معهما. بل أكثر من ذلك: يتوحّدون معهما إلى درجة أنّهم يتنفّسون الروائح نفسها. هناك إحساس برذاذ الأمواج العاصفة، والمعاناة بسبب الأمطار والعواصف، واستنشاق "يود" البحر، ومكابدة الوحدة نفسها، ومُلامسة الجنون (حرفياً)، المُتجسّد في شخصيّتيهما.
في جانب كبير منه، يسبر "الفنار" بعمق وأصالة هلاوس العزلة والآثار والعوامل المترتبة على الشعور بالوحدة والخوف والحرمان العاطفي والكبت الجنسي، وطبعاً العزلة، التي تزيد هذا كلّه وتعمّقه، وتُفجّر الاضطراب والعنف في النهاية.
هل كانت الباخرة، التي نقلتهما ليلاً إلى الجزيرة في افتتاح الفيلم، تُشيِّعهما إلى العالم الآخر، أو إلى الجحيم، أو إلى أرض اليمبوس، أو المطهر؟ حتى بعد انتهائه، وتكرار مُشاهدته، يصعب الجزم بتأويلٍ قاطع لأسئلة كهذه، ولغيرها. مثلاً: هل أنّ بطلي الفيلم شخصية واحدة اسمها توماس، أم أنّهما شخصيتان، فعلاً؟ مع تطوّر الأحداث، وتشابك الصراع وتعقّده، هل حلّت إحداهما مكان الأخرى، أم هل تبادلتا الدورين؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأويلات وتفسيرات، وإلاّ، فإنّها تُعمِّق الحيرة أكثر.
الفيلم كابوسيّ، تدور أحداثه في تسعينيات القرن الـ 19، في جزيرة مهجورة مقابل ساحل ولاية "ماين" (نيو إنغلاند، شمال شرق الولايات المتحدة الأميركية). فيلم رعب "داخلي"، منوط بالروح لا بالجسد. فيلم عن الخوف وجنون العظمة والهلوسات والهذيان والعصاب. فيه، لا يُمكن التنبوء أبداً بما سيحدث لاحقاً، إذ يزخر بمنعطفات وصدمات وانقلابات يصعب تخمينها، كحالة الطقس والبحر، ما ينعكس على الحالة الذهنية للبطلين، ويخلق قدراً هائلاً من التشويق والإثارة والمتعة، رغم القسوة والخوف والاضطراب والحزن.
توماس ويك (ويليام دفَو) بحّار سابق. يعاني إصابة غامضة في ساقه. مُتقلّب المزاج والشخصية. غالباً لا يتّسق حديثه أو ذكرياته أو أفعاله. رغم بساطته وانفتاحه وحبّه الظاهريّ للثرثرة، فإنّ شخصيته غامضة ومُحَيّرة: هل يُخفي شيئاً، أم أنّها طبيعته؟ ماذا عن إصابته وماضيه وأسرته، وحياته عامة؟ ماذا عن السرّ المُتعلّق بمساعده السابق، الذي يقال إنه مات مجنوناً، جرّاء رؤى غامضة كانت تنتابه؟ لا شيء مؤكّداً، بل تلميح إلى أن توماس قتله. لكن، لماذا؟ أمن أجل مكانته كحارسٍ للضوء؟ ما قصّة تشبّثه الموتور بضوء الفنار؟ أهو نار أولمبية؟
توماس هاورد (روبرت باتينسن) شاب في بداية حياته المهنية كبحّار. يتّسم بالهدوء ورباطة الجأش. يتمتّع بسلامة بدنية. مطيع وشديد الامتثال للأوامر بشكلٍ مريب. يقبل الاضطلاع بالأعمال الوضيعة، خلال عمله مع رئيسه لـ4 أسابيع: تنظيف الأرض وكلّ ما يتعلق بالفنار، التخلّص من الأوساخ وغيرها. وأيضاً، فإنّ الشاب يتحمّل توماس ويك، الذي لا يُطاق أصلاً. يُشاركه الطعام والشراب وحجرة النوم. ورغم مهماته الكثيرة، يُحرّم عليه الصعود، أو الاقتراب من حجرة الضوء في الفنار، فهي حكرٌ على سيّده.
لاحقاً، تنكشف قصّة هاورد، الفارّ من حياته السابقة بعد سرقته اسم رفيقه وهويته، وبات يعرف بإفريم وينسلو، الذي يُشتبه بأنّه قتله. غير ذلك، لا يُعرف عنه شيء كثير، باستثناء رغبته في جمع المال، والاستقرار بعيداً في منزل خاص به.
يعاني توماس مشقّات العمل، وطيور النورس العدوانية المزعجة، وأحلاماً وهلوسات. بالنسبة إلى مُستجِدّ في أمور البحر والعمل في الفنار، يكابد الصمود في تلك الجزيرة اللعينة، في أجواء كابوسية، وصحبة هذا الموتور النزق، خصوصاً بعد تأجيل موعد عودتهما، بسبب عاصفة قوية، إذ يصعب عليه التحكّم في أعصابه وقواه، فتبدأ مراحل التدهوّر البطيء لحالته النفسية والذهنية، والتحوّل العنيف في شخصيته.
ما يشغل توماس أيضا أنّه مسكونٌ بسرّ حُجرة الفنار، وما يحدث فيها، وبأمر الضوء. لذا، لا يتورّع في النهاية عن الصعود إليها لمعرفة السرّ، فينتهي به الأمر مأسوياً، بما يشبه نهاية بروميثيوس، سارق النار. وهذا يظهر في الختام، حيث ينهش النورس جسده المصاب، ما يُحيل إلى المصير نفسه لبروميثيوس، الذي نهش نسرٌ كبدَه، وفق أسطورة قديمة.
عبر احتكاكهما اليومي، تبرز تناقضاتهما، فهما يتأرجحان بشدّة بين عداوة وصداقة، وألفة ونفور. أحياناً، تحكمهما علاقة السيد ـ العبد، أو كراهية ـ حب بين أب وابن. مباراة الأداء بين دفو وباتينسن تحتاج إلى دراسات عديدة في الإلقاء واستخدام لغة الجسد والابتعاد عن الافتعال. مباراة تتجلّى ذروتها في مَشاهد الرقص المحموم بينهما، هما المدفوعان بحالات سكر. لا مبالغة في القول إنّهما أبدعا أداءً. هذا عائدٌ أولاً إلى إدارة روبرت إيغرز.
لافت جداً النوتة الموسيقية الصاخبة لمارك كورفن، أو الموسيقى التصويرية، الموفّقة أحياناً في توقيتها المناسب، وأحياناً تكون مزعجة، مقارنة بشريط صوتي ذي عبقرية كبيرة، موفّق في خدمة الدراما، وأحياناً يكون خيطاً درامياً مستقلاً، يتقاطع مع الدراما والصورة، مبرزاً إياهما ومُعمّقاً تأثيرهما.