"العربي الجديد" في قرية "انتحاري الكنيسة": صمت ورعب وتبرّؤ

15 ديسمبر 2016
لا يرغب أهالي القرية في الإدلاء بأي تصريح(العربي الجديد)
+ الخط -
غابت شمس الاثنين 12 ديسمبر/كانون الأول، أتى الليل ولم يرحل عن المنزل الذي تقطنه عائلة محمود شفيق محمد مصطفى في قرية منشية العطيفي بمركز سنورس في محافظة الفيوم جنوبي مصر. على عتبات البيوت جلست النسوة متشحات بالسواد، وقف الرجال يطالعون من بعيد الآتين إلى القرية، غرباء يظهرون في تلفُّتِهم، أسئلتهم القاطعة تكشف مهمتهم العاجلة داخل البلدة الساكنة، التي عرفت طريقها إلى الشهرة بعد أن جاء ذكر أحد أبنائها على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، معلناً أنه الانتحاري الذي نفذ جريمة تفجير الكنيسة البطرسية يوم الأحد الماضي.

لا أحد يعطي معلومة خاطئة، إذ لا معلومة من الأساس. لا أحد يريد أن يتكلم. ساعات طويلة يمكن قضاؤها داخل قرية منشية العطيفي، في محاولة البحث عن لغز محمود شفيق محمد مصطفى بلا فائدة تذكر. الجميع أعلن تبرؤه منه. أزالوا "بقاياه" من المنطقة، منعوا الأطفال من تداول سيرته، والتزم الجميع صمتاً مريباً عن محمود. معلومة واحدة تتردد: "كان محترماً ومن البيت إلى الجامع ومن الجامع إلى البيت".



منذ ثلاث سنوات لم تطأ أقدام محمود أرض قريته. آخر ما يُذكر عنه تلك القضية التي اتهم فيها، حين أخذه الأمن عنوةً، بحسب شهادات أهل قريته، أثناء ذهابه إلى أحد الدروس. القصة التي وردت على لسان والدته قبل يومين في إحدى القنوات الفضائية، يؤكدها أهالي القرية، فقد التزم محمود منذ سنوات بأن يحفِّظ أبناءهم القرآن، في وقت فراغه في المسجد الكبير.
منذ سنوات أتى محمود إلى القرية طفلاً لا يتجاوز الأعوام الستة، التحق بالمدرسة الابتدائية.

الأب "صول" (رتبة عسكرية متدنية) في القوات المسلحة، وأمه ربة المنزل من العاصمة، لذلك ظلت تصِفها القرية بـ"المصراوية". على الرغم من مجيئها إلى القرية منذ سنوات إلا أنها لم تزل غريبة، لا يعرفها كثيرون، سكنت غرب المصرف، في تلك البيوت الجديدة التي يقطنها معظم رجال الشرطة المعاونين، تجاور والد محمود وعمّه منذ سنوات. لم يفترقا حتى في الموت. رحل والد محمود أولاً ثم تبعه أخوه بعد عام واحد، وبقيت زوجة عمه، علاقة جيدة وقوية، لم تعرف الجفاء إلا قبل أيام، بعد أن قررت أم منى أن تربي بناتها بعيداً عن أبناء شقيق زوجها، مكتفية بالقول "إحنا قرايب بس ما نعرفش حاجة عن حد وكل واحد في حاله".
السطح الملتصق بالسطح والباب المجاور للباب لم يكونا كافيين ليمنحا محمود قدراً من التعاطف من زوجة العم، التي لم تستطع أن تخفي دمع عينيها، ولا أن تخلع اللون الأسود عن عباءتها كما خلعت محمود من بطاقتها العائلية بقولها "مكنتش بشوفه ومعرفش عنه حاجة إحنا بنتقابل صدفة".


يراقب أطفال القرية خطوات الغرباء (العربي الجديد)



أطفال القرية يرافقون الغرباء في خطواتهم، صخبهم لا يفارق الجميع، يبدون أقرب إلى جرس الإنذار الذي ينطلق مع دخول كل حارة جديدة أو منزل، فتنشق الأرض عن شاب أو اثنين يبعدون عيون الصحافة عن المكان، بذات الكلمة التي لا تتغير "إنتوا ضيوفنا بس معندناش حاجة نقولها". لا يختلف حال أهالي القرية عن حال "شيخ البلد" محمد شعبان. ثمانون عاماً قضاها في مجلسه في القرية يعرف كل شاردة وواردة في كل منزل من منازلها، ما أن يولد المولود حتى يُسمى من شيخ البلد، إلا محمود وأسرته، الوحيد الذي خرج من تحت سطوة "الشياخة"، فلم يعرفه طفلاً ولا صبياً ولا شاباً ولا إرهابياً: "أنا شغلتي في البلد أحل أي نزاع بين الأهالي ولو فيه مشكلة ببعت الغفير يجيب أهلها وأحلها وأنا في مقعدي ده، لكن ولا عمري سمعت عن محمود ده غير من الريس (الرئيس عبد الفتاح السيسي) مبارح".

تبرّأ شيوخ القرية وقاطنوها من محمود منذ توقفت سيارات الأمن المركزي وعربات رجال الأمن عند مدخل الحارة الضيق. ترجّل الجنود في اتجاه منزل محمود وأسرته، دقائق وخرجوا ومعهم الأخ الأصغر محمد، سائق التوكتوك الذي كان يعيل العائلة ولا يعرف أحد مصيره اليوم. لكن ربما "نرمين تعرف".
نيرمين، هي شقيقة محمود شفيق، طفلة لم تزل، ربما لم تكمل عامها الخامس عشر بعد، لكن صوتها كان جهورياً وهي تقول "ضيّعتونا وضيعتوا أخويا". تنطق نرمين من فوق سطح منزلها بعد أن رفضت أمها فتح الباب للصحافيين. مثل أمها، تصرّ الفتاة على براءة أخيها، وبأنه لا يزال على قيد الحياة. تنتظر مكالمته الأسبوعية من السودان كما تقول. "محمود عايش ومحمد هيرجع، وأنا مسؤولة عن أمي وأخواتي والتوكتوك. امشوا وسيبونا في حالنا"، تقول الشقيقة.
امتلأت منشية العطيفي بالصحافيين، وكاميرات القنوات التلفزيونية، وصنّاع التقارير، ولكل صحافي "مخبر" يرافقه كظله، لا ينكر هويته، فهو الغفير النظامي التابع للمباحث، يعرفك بهويته باسماً، مستعداً للظهور في التقرير المتلفز بأريحية شديدة كي يتحدث عن الإرهابي المحتمل، مدافعاً عن نقاء القرية وفطرة أهلها، مؤكداً أن محمود شفيق محمد مصطفى ليس من أهل القرية فهو كالنبتة الشريرة التي تنبت وسط الأوراق الخضراء، حتى وإن كان أغلب المخبرين ليسوا من القرية ويتبعون قرى مجاورة.
كما كان البحث عن محمود صعباً، كان البحث عن مسيحيين داخل قريته مستحيلاً، ففي قرية العطيفي لا مكان لفتنة ولا أصل لطائفية أو تعصب، فلا مكان لمسيحيين في العطيفي "البلد مفيهاش نصاري خالص وسنورس كلها مفيهاش إلا 4 بيوت لنصارى معروفين في المركز كله".

دلالات