"العربي الجديد" في الكامور التونسية: غضب على عقود من النسيان والتهميش

26 مايو 2017
عشرات الخيم للمعترضين على التهميش والحرمان (العربي الجديد)
+ الخط -
بعد طريق قاسٍ ووسط الصحراء، وعلى رقعة يُخيّل إلى الوافد الغريب عنها أنها لا تنتمي أبداً لتضاريس تونس المعروفة، تفاجئك لافتة كُتب عليها الكامور، على بُعد مائتي كيلومتر من تطاوين المدينة، وتشير إلى قرب الوصول إلى محطة استخراج النفط، علامة الحياة الوحيدة في المكان، والتي تحيط بها عشرات الخيام التي رُفعت فوقها أعلام تونس. تكاد الخيام أن تُتلف بمجرد هبوب رياح رملية، إذ إن أقمشتها شارفت على الاهتراء، خصوصاً أنه تم استخدامها سابقاً في مخيمات اللاجئين الحدودية مع ليبيا إثر اندلاع الثورة هناك سنة 2011، وبعضها خيام تعود للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ونُصبت اليوم لتأوي لاجئين من نوع آخر، لاجئين من التهميش والحرمان والنسيان، في مقابل محطة النفط، مكان رمزي يُذكّر بالثروات التي تُستخرج لتنقل عائداتها خارج تطاوين، ولا يعود منها إلا نزر يسير فقط، خلاصة الدولة التي تجاهلتهم عقوداً من الزمن.
فلا يمكن لمنطقة الكامور التونسية أو القرى المحيطة بها أن تكون منطلقاً نحو أي شيء إلا ثلاث وجهات، تلتقي كلها في نقطة واحدة وهي الخطر والمجازفة، وتتمثل في المغادرة نحو ليبيا، أو الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، أو العمل في مجال التهريب. ولا يمكن للشهادات الجامعية أن تفتح آفاقاً داخل هذه الرقعة الصحراوية القاحلة، والتي لا تزال ملامحها بدائية، وطبعت جفافها على النفوس والحياة في تطاوين.
بلغت "العربي الجديد" اعتصام الكامور، إثر ساعتين من التنقل بين الكثبان الرملية والطرق الوعرة وساعات من انتظار سيارة تقبل نقل صحافيين إلى المكان مقابل أي ثمن مقترح، لتلتقي فئة من شباب تطاوين الغاضبين من كل ما يدور حولهم.
لا شيء يبعث على الأمل هنا، هي عبارة متفق عليها بإجماع كبير. الحياة تلوّنت بلون الرمال على امتداد محطاتها لدى المحتجين، هذه الرمال التي ملّها أبناء تطاوين، فهي تحاصرهم أينما ولّوا وجوههم، فلا بنية تحتية تربط القرى ببعضها غير الطرق الوعرة بين الرمال، ولا طبيعة غير نباتات شوكية متناثرة هنا وهناك، ولا أماكن للعمل ولا حتى للترفيه والثقافة.
أمام المحطة الرمز لأمل الحياة المتبقي لدى الكثيرين في الكامور، التقت "العربي الجديد"، عدداً من الشباب المعتصمين، بينهم مسعود العيدودي ويوسف عبد اللطيف، شابان من خريجي الجامعات حاصلان على الماجستير في اختصاصات مختلفة، ولكن لم تنفعهما الشهادة في شيء بل صارت سبباً في إحراج متواصل للشابين اللذين درسا خارج تطاوين وعادا إليها عاطلين من العمل وعبئاً إضافياً على العائلة.




أطنب مسعود، شاب ثلاثيني من تطاوين، التحق باعتصام الكامور منذ بدايته، يتحدث عن حبه لوطنه، ويدفع عن نفسه والمشاركين في الاعتصام تهمة اللاوطنية والانتماء لتنظيمات إرهابية تُحدث البلبلة في البلاد. يقول مسعود لـ"العربي الجديد": "نحن لسنا دواعش، وفداء لهذه الأرض، نحن نحتج ضد دولة تناستنا ستة عقود إثر الاستقلال وسبع سنين بعد الثورة، غير أننا سنقف لحمايتها ولو على جثثنا ضد من يتربص بها، وملحمة بنقردان السنة الماضية عبرة". لا يخفي مسعود الألم من سلطة "تدفع الشباب إلى كسب حياتهم بطريقة غير قانونية أو الهجرة إلى وجهة خطرة، هؤلاء يتساءلون لماذا لا تدللنا تونس كبقية أبنائها، توفر لهم ما يحتاجونه حتى سبل الترفيه".


كما يطرح مسعود أسئلة أخرى، من بينها ''لماذا تتعامل معنا الحكومة بتعنّت مريب؟ ألسنا جزءاً من تونس الأعماق التي نصّ الدستور على أنها تتمتع بتمييز إيجابي، بقي شعاراً فقط يُرفع في الحملات الانتخابية لأحزاب تناست هموم المنطقة بمجرد صعودها للحكم؟''.
في السياق، يقول يوسف عبد اللطيف إن شهادة ماجستير في علوم الأرض لم تكن كافية لتوفير فرصة عمل، وهو اليوم واحد من أصحاب الشهادات العليا والمهنية والعاطلين الآخرين من العمل الذين ينتظرون التفاتة من الحكومة. يشتكي عبد اللطيف تجاهل الشركات التي لا تكلّف نفسها عناء الرد على مطالب العمل الكثيرة التي قدّمها، في محافظة ذات أفق توظيفي هائل لو توفرت إرادة لإقامة مشاريع سياحية أو حسن حوكمة الموارد الأولية والثروات المتوفرة في المنطقة. ويعلّق آماله ومن معه في الاعتصام على أن تستمع السلطة له ولغيره وتلبي مطالب توفير فرص العمل التي يعتبرها معقولة وأخذت بعين الاعتبار القدرة التشغيلية للبلاد ومواردها المالية.
ويشدد على أن الاعتصام انطلق سلمياً وتوصل لاتفاق تم التفاوض مع الوفد الحكومي على أساسه، ليُفاجأ المعتصمون بتولي الجيش حماية المنشأة ومن ثمة استقدام فرق مختصة من الحرس إلى الكامور، ردت بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي على مطالب المحتجين. ويشير إلى أن أحداث العنف التي حصلت داخل تطاوين المدينة وأسفرت عن حرق مقرات أمنية، لم يتسبب فيها أبناء المنطقة، بل مهرّبون استغلوا الاحتقان في المنطقة لاستعادة سيارات ومواد كهربائية محجوزة، وهو ما تم فعلاً، موضحاً أنه جرى القبض على بعضهم وتسليمهم للقوات العسكرية الموجودة في المكان.

كسر "الفانة"، أو المضخة الرابطة بين نقطة استخراج النفط ومحطة نقلها في الكامور، هو فعل رمزي أيضاً في تقدير المحتجين. فبعد مقتل الشاب أنور السكرافي لم يعد ممكناً استمرار عمل المحطة بشكل عادي، إذ إن فقدان حلقة من الطوق البشري المحيط بها من المعتصمين ردوا عليه بكسر "الفانة" وتعطيلها، ليتحول شعار الاعتصام من "الرخ لا" (لا تراجع) إلى "الضخ لا" (توقف ضخ النفط).

ويُعتبر مقتل الشاب نقطة تحوّل في مسار الاعتصام، إذ ارتفع تضامن الأهالي مع المعتصمين بشكل لافت إثر جنازة السكرافي، ليتوافد أبناء المنطقة على الكامور لإيصال رسالة إلى الحكومة بأن الاعتصام جزء من جسد أكبر يشتكي بأكمله من الحرمان والتهميش.
عبارات الاستنكار والاستهجان تسبق عبارات الترحيب في تطاوين والكامور، فتجريم الحراك مثّل صفحة أخرى من صفحات الظلم للمنطقة، على حد تعبير الشاب حسن، المعتصم هناك، والذي لم يفوّت الفرصة للتذكير بأن بعض وسائل الإعلام استكثرت على الأهالي الاحتجاج من أجل حقوق مشروعة كالتشغيل والعيش الكريم، واعتبرت ذلك ضرباً لأمن البلاد.
ويؤكد حسن عزم المحتجين على التصعيد، "فالاعتصام كان مجرد صيحة لتستفيق الدولة الغافلة عن معاناة جزء منها"، على حد تعبيره، مضيفاً: إذ لم تكْفِ الحناجر والاعتصام والدم المراق لتنبيه السلطة، فإنه لا رجوع عن المطالب، ولا التخفيض من سقفها وارد أساساً بين الخيارات المتاحة، والتي تشير إلى مفترق طرق يفتح على التهدئة والتفاوض والاستجابة إلى المطالب والاعتذار إلى عائلة السكرافي، أو التصعيد ومواصلة الاعتصام وإيقاف الإنتاج مهما كلف ذلك.

تطاوين ليست بالمحافظة الفقيرة، على الرغم من طبيعتها الصعبة. بيد أن الحياة فيها لغير المقيمين تكاد لا تطاق لفترة قصيرة، فالمرافق فيها تُعد على الأصابع، والطبيعة قاسية والبنية التحتية تنتهي بمجرد الوصول إلى تخوم المدينة، ولا تربطها غير مسالك بدائية ببقية القرى المحيطة بها، وتنعدم كل أوجه الرفاه والترفيه في تطاوين. وفي انتظار أن يعود الجميع للتفاوض، تستعيد المدينة بعض هدوئها وتعود إلى إيقاعها المعتاد، فيما يأمل أهالي المدينة بأن يُنفَض غبار النسيان عنها.

دلالات