"العجيلي"... بيئة بدوية وفكر نيّر

12 ابريل 2018
+ الخط -
تناول الأديب عبد السلام العجيلي خلال فترة عمره الذي قضاه مطالعا نهما، وناقدا حذقا ومتمكنا لكتب الأدب والتراث، ودراسة الطب في جامعة دمشق بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في مدارس حلب، واهتمامه بالشأن العام، أضافة إلى تسلمه حقائب وزارية متعددة، وعضوا فعالا في مجلس النواب، ومشاركا في جيش الإنقاذ مدافعاً عن قضية فلسطين الكبرى، ولا ننسى في هذا المقام دوره في كتابة المقال الأدبي، وتناوله بأسلوب منمّق ومفهوم وسلس، صار يألفه الصغير قبل الكبير، والسبب هو تمتع الكاتب بحس مرهف، وأسلوب واضح، سلس ومفعم بالرغبة الجامحة نحو تحقيق الذات، وفي متابعة الآخر، وفي ما يخطه قلمه من صور بيانية غاية في الروعة تلزم الطرف الآخر بالاستمرار والمتابعة، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وكأنه يحاول الإقلاع بالمكان، ومصوراً إياه بريشة فنان، بدقة تفوق الوصف.

فللعجيلي شخصية مهضومة، وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشد الانتباه إليه، وتتلمذه شابا في مجلس آل العجيلي في مدينة الرقة السورية على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مران نسج القصص والحكايات المعاشة والمتخيلة.


وظل العجيلي على مدى السنوات التي قضاها من عمره، متفردا من بين أقرانه، ولا سيما أنه جرّب جميع صنوف الكتابة، وتمرس بها، وبرع إلى حد التفوق بعيدا في ذلك، ما دفع به إلى أن يحقق نجاحات إضافية غاية في الروعة والبهاء، أضفت إلى براعة العجيلي إشراقة أخرى من مفاهيمه الوجدانية الموضوعية لما هو معروف عنه، ويشهد على ذلك كل من قرأ وسمع وشاهد ما سبق أن تناوله الأديب الراحل، ونحن نفاخر بجزيل عطائه، وهو الابن المدلل لعائلة مشهود لها بنبل الأخلاق، وطيب المحتد، ومن أسرة غنية لم تعرف يوما طعم الحاجة.. ومن هنا جاءت انطلاقة العجيلي، والمعروف بشعبيته، وبهواياته الكثيرة التي سجلت الكثير من المواقف الحميدة التي لا يمكن لها أن تمحى أو تزال من الذاكرة.

بدأ العجيلي حياته شاعراً، ونشر أشعاره في الدوريات المزدهرة في الأربعينيات، ونشر أعماله الشعرية في ديوان يتيم "الليالي والنجوم".

والعجيلي من كتاب القصة الذين قدمت حول قصصه عشرات الدراسات الأكاديمية والجادة في مختلف أصقاع العالم، في الوطن العربي وخارجه، وهو لا يختصر بعبارات أو صفحات، ذلك لأنه كاتب مكثر، ويكتب كما يتنفس، أحب الآخرين كما قدر ذاته، لذا لم يلتفت إلى نقد حاقد تعرض له في أثناء مسيرته، وما أكثر ما تعرض، وبقي يكتب قصصه كما يراها هو وكما يعجب بها.

والعجيلي كاتب فريد من نوعه، فهو دائم الحديث عن أصدقائه وأساتذته، وهو باحث دائما عن اللحظة التي تمكن من الاعتراف بفضل الآخر، ولو حاول أحدنا استعراض مقالات العجيلي وأحاديثه عن الآخرين لوجد أسماء ضاعت في صفحات الزمن ولم نكن لنذكرها لولا أن العجيلي ذكرها، وقد ينتمي بعض هؤلاء إلى أجواء بيئية محدّدة، أو إلى الناس البسطاء.

فالعجيلي هو الوفاء، لأنه لم يترك ذكرى أحد تمر دون أن يقدم شهادته ورأيه سواء في مقالات أو في لوحات تحمل أسماءَهم؛ كما في كتابه الجميل الذي يُمثل رؤية في السيرة والأشخاص "وجوه الراحلين".

وإذا أردنا أن نكون منصفين، فإن كتابة العمود الصحافي الثابت من أصعب أنواع الكتابة الصحافية، ولا يبرع فيها ويستمر إلّا الكاتب الفنّان، وكذلك كان العجيلي الذي استطاع أن يبرز كواحد من أهم كتاب المقالة العرب، ومن أكثرهم غزارة في الوقت نفسه، ما يؤكد بأنّه كان هاويا للأدب وبقي كذلك طول عمره.

وظلّت البادية ملهمة عبد السلام، وباعثا ملهما في تنوير فكره النير، وفي غزارة إنتاجه المتفرد وفي إبداعاته.

وكانت كتاباته دائما تتأرجح بين رياح البادية وأسلاك المدينة، إلا أنه ظل في صميمه بدويا، وكان اندماجه في حياة الحاضرة اندماجا غير رافضٍ لتطورات العصر، ولكنه اندماج مراقب منغمس، إلا أنّه غير مستسلم، ولذلك كانت سلوكياته اليومية وتصاويره القصصية قادرة على النفاذ إلى صميم التجارب التي يخوضها، وهذا ما يفسّر قوّة تأثيره الحيوي وتنوعه في الحياة المهنية والسياسية والأدبية، على امتداد ثلاثة أرباع القرن العشرين، مع تفاوت شديد متصل بتقلبات المراحل المتعاقبة.

قضى العجيلي جل أيامه في أوجه عدة، شغل فيها وقته بين عيادته المتواضعة، ومضافة الأسرة حيث كان يسمع ضروباً من الحكايا والأخبار، ناهيك بقراءاته المتتابعة، وكتاباته كلّما اشتهى ذلك، بالإضافة إلى تنقلاته التي تعرَّف من خلالها إلى عالم رحب شابه الكثير من الانفتاح، وحب المعرفة.

فالأديب الراحل يعد علما من أعلام سورية المبدعين، ومن أبرزِ كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي، وممن خاضوا تجارب عديدة ومتنوّعة في الحياة، سواءٌ في الجانب الأدبي أو الشخصي.

فالأسفار، والعلاقات الإنسانية، والعمل، والكتابة الأدبية، ومستجدات الحياة اليومية، وما يعتريها من أحداث ـ جميعها لها مكانة خاصة لدى الكاتب!

وعندما نغوص في أعماق ما كتبه العجيلي، فان معظم ما تناوله نابع من التراث أولا، والبيئة الفراتية الغنية ثانيا، والتي أغنت ثقافته الفكرية، وساهمت في إبداعاته، وفي غزارة إنتاجه، وبالتالي، خرج بنتاج أدبي متنوع يندر تناوله، وهذا هو مفتاح نجاحه وشهرته.. أضف إلى ذلك مطالعاته الدائمة في بطون أمهات الكتب في سني دراسته الأولى، ومتابعته لما يكتب، وحفظه للشعر العربي القديم، وما يملكه من حس أدبي منذ اليفاعة أضفى جميع ذلك على عطائه الإبداعي، وأغناه.

كتب العجيلي الكثير من النتاج في الأدب الساخر، ولا سيما في سني ممارسته الأولى للكتابة، كانت تثيره، أو تدفعه إلى هذه الكتابة المفارقات والمتناقضات التي تبدو لعينه أو لفكره في ما حوله، من أحوال، وأمور، وأناس.

في ذلك العهد، في أوائل عهده بالإنتاج الأدبي، كان متفرغا للضحك، فيشارك فيه ولا يهتم بما وراء المظاهر الضاحكة الخفيفة، من قضايا مؤسية أو مؤلمة، ومع الزمن أصبحت نظرته إلى الأمور أكثر نفاذا إلى حقائقها، التي قل أن تكون ضاحكة أو مسلية، فقل نتاجه الساخر، ولكن في السنين الأولى، أثناء دراسته في الثانوية وفي الجامعة، كتب أشياء كثيرة، شعرا، ونثرا، بأمور ضاحكة وساخرة ـ إخوانيات.

لم يكن يهتم بالنشر، ولم يطلب منه آنذاك أن ينشر، لذلك لديه ركام من الكتابات الساخرة، لم ينشر، ولا أظنه ينشر.. لأنه في كثير من الأحيان يتعلق بعلاقات إخوانية، تهم الآخرين، وقد يكون نشرها مسيئا إذا لم يفهم القارئ الظروف التي كتبت وأبدعت فيها، ومع ذلك فإن فصول أبي البهاء، هي فصول ضاحكة، كتبها في عهد متأخر، في زمنٍ متأخر، في الثمانينيات، وليست فيها إساءة إلى أحد، ولكن أراد أن يظهر فيها تناقضات المجتمع، ونسبت كثيرا من أحداث الفصول إلى شخصية ضاحكة، ساخرة، حقيقية هي أبو البهاء، الذي كان أحد معارفه وأصدقائه.

فالأحداث التي رواها فيه، أحداث حقيقية، أراد منها هو الضحك فقط، بينما هو حملها مغازي اجتماعية، وأخلاقية. في كثير من الأحيان تثيره كثير من الأمور، وتدعوه أن يكتب في السخرية، ولكن السواد غلب على ما حولنا في هذه الأيام، وفي هذه السنين، لذلك من غير اللائق أن يترك الجد إلى السخرية.

أما القصة، فهي نوع من تحويل كلامه العادي إلى فن أدبي، وهو حينما يلقي المحاضرة، تجد محاضراته كلها عبارة عن مجموعة من القصص، أو الحكايات، تنتهي إلى الغاية التي يريدها، سواء كانت فلسفية، أو علمية، أو سياسية.. فهذه طريقته في الإبداع. طريقة الحكاية، حتى حينما كان ينظم الشعر.

وإن علاقاته الشخصية مع الآخرين لا تعتمدُ على الصفة الأدبية. علاقة الصداقة بالناس، كانت تعتمدُ على دوافع إنسانية.

فقد يكون هناك أديب كبير، وقد كان هناك أدباء كبار في أسمائهم، وفي منزلتهم، ولم يرتبط بصداقات معهم، بل إنه ارتبط، كما يؤكد في حوار معه، مع أصدقاء من أصناف مختلفة مشاربهم، من متسكعين، ومتشردين، وفقراء، وشذاذ، لأن صفاتهم النفسية كانت قريبة إلى قلبه.

في غالب الأحوال كان شعره عبارة عن قصص قصيرة، ما بين النجمة والقمر، وما بين النهر والشاعر. هذا اللون جبل عليه نفسيا، وتحولت هذه الجبلة النفسية إلى شكلٍ أدبي.. وقد كتب الشعر في مطلع حياته، حينما كانت التجارب قليلة، والعلاقات الإنسانية محدودة، والأماني كذلك، وأحب الشعر، لا شعره هو فقط، وإنما الشعر بصورة عامة، فهو من محبيه ومن حفاظه، ولكن بعد أمد طويل، حين كثرت التجارب، وأصبحت الأفكار غنية، وكان لا بد له من التعبير عن أمور كثيرة لا يستوعبها الشعر، تحول إلى النثر، وكتب حسب واقع الحال، وحسب ما يحتاجه.

ويعتبر العجيلي كل ما يمارسه في الحياة، هو هواية، حتى عمله الطبي، كان يمارسه بروح الهاوي وليس بروح المحترف! والأدب كذلك هواية، بالنسبة له، ويصر دوما على أنه هواية أكثر من غيره.

والهواية الثالثة الأسفار، حتى سلوكه اليومي، يسير به على طريق هواية، لا يعتبر أنَّ هناك شيئاً ملزماً في الحياة، إلزام مهنة، والحياة، نفسها، هواية كذلك.

أما الهواية الرابعة الرياضة. وكان العجيلي، رحمه الله، يحبّ السير ليلا ونهارا، وقل ما استخدم السيارة، كما يستخدمها الآخرون، حتى إذا سافر إلى بلاد يجهلها، فهو يمشي فيها لا طلبا للرياضة، ولكن يجد جسمه بحاجة للحركة.

ولم يضع العجيلي لنفسه بنفسه غاية يريد أن يصل إليها، فهو عاش حياة قل فيها الانزعاج، ثم أنه خرج من حياته، برضى من ضميره، كان يرجو أن يقترن برضا من الخالق سبحانه وتعالى.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.