لم يأت تفوق حمزة وحيازته ثاني أعلى معدل في امتحان البكالوريا المغربية، من فراغ، بل نتيجة مثابرة فرضتها مرحلة "سوداء" في طفولته، لقّنه فيها والداه دروسا في العنف، لجبره على إلغاء التفكير في كل هواياته والتفرغ لدراسته، بعدما قررا استثمار إمكانياتهما البسيطة، لصنع "تلميذ متفوق بامتياز".
مسار تلميذ
الساعة تشير إلى الواحدة صباحا. الحركة غير عادية في صالون شقة بسيطة، في صفرو، المدينة المغربية المشهورة بفاكهة الكرز ومهرجاناها الأقدم عربيا. كل أفراد الأسرة على "أعصابهم" منهمكون بجدية في النبش بين صفحات برنامج "مسار" الخاص بالتنقيط (نتائج الثانوية العامة)، بموقع وزارة التعليم الإلكتروني، بحثا عن نقطه.
كبارهم وصغارهم تناوبوا في حوار إلكتروني حميمي مع حواسيبهم وهواتفهم المحمولة، تباعا ودون كلل أو ملل، على إدخال كل المعلومات المطلوبة لتسهيل الولوج إلى الموقع والحصول على نقطة حمزة في امتحان البكالوريا، من دون أن تراودهم "بذرة" شك في نجاحه، لعلمهم باجتهاده وكدّه ومثابرته.
جهودهم ومحاولاتهم باءت بالفشل، رغم تكرارها عدة مرات، لعطب تقني ناتج عن الضغط المضطرد على الشبكة من قبل آلاف الشباب المبحرين في البرنامج، بحثا عن معدلاتهم بعد دقائق معدودة من إطلاقها في هذا النظام المعلوماتي المتكامل، الرامي إلى تدبير أفضل للنقط لكل التلاميذ والمؤسسات التعليمية.
صرخة عبقريّ
الجو تكهرب بمرور الساعات واستمرار فشل كل المحاولات. وأيقن الجميع بضرورة تأجيل البحث إلى حين يخف فيه الضغط على الشبكة. لكن صرخة مدوية أطلقها حمزة، أخرجت الجميع من غفوته، اعتقادا بحدوث مكروه لهذا الفتى في 11 يوليو/تموز 1997 في حي ستي مسعودة في صفرو الجميلة.
"ماما، بابا. خارق، مذهل".. جمل انسابت باسترسال من فم حمزة تلميذ شعبة العلوم الفيزيائية في مؤسسة الياسمين، الناجح ليس في الحصول على نقطه إلكترونيا، بل في محو "نحس" رافق البحث. تطلع الكل إليه وهو ينط بين الأرائك فرحا ويعانق الواحد تلو الآخر منهم، مذرفا دموع فرحة لا توصف.
19.41 من 20 هو المعدل الذي حصل عليه في امتحانات البكالوريا التي تعتبر أكبر عقبة يجتازها كل تلميذ في أنحاء الوطن العربي كافة.
بعد سماع هذا الخبر، دخل الجميع في حالة "هستيريا" فرح بتفوق توقعونه بدون أن يدروا أنها ثاني نقطة وطنيا، إلا بعدما تداولت وسائل الإعلام ذلك. حينها أيقن الفتى أهمية تحقيقه جزء من حلم والديه البسيطين اجتماعيا.
دموع أمّ
وهو يرقص ابتهاجا، انتبه حمزة إلى دموع أمه المجازة في الدراسات الإسلامية، المنسابة حارّة على خديها فرحا وندما على تعنيفه من قبل، قبل أن يرتمي في حضنها، كما لو كان طفلا رضيعا باحثا عن حليب يغذّيه. حينئذ اكتشف سر بكائها. ولكنها لم تجد بدا من الاعتذار له عما بدر منها من تعنيف حينما كان صغيرا.
معا استعادا شريط ذكرى طفولته لما كانت المراجعة والحفظ آخر ما يفكر فيه طفل يقضي جل وقته في الشارع يلاعب أقرانه، دون اكتراث بواجباته الدراسية، ما حير والديه اللذين لم يتوانا في محاولاتهما جبره على "أجندة" وضعاها ولم ينضبط لها، لمراهنتهما عليه أملا في استثماره رأسمالا يذيب فقرهما.
تذكر الفتى يوما تحول فيه جسده الصغير إلى "ركح" تركت فيه الأم بصمات جلده، بعد تخلصه من كتبه بسلالم المنزل ولعبه الكرة، وإيهامها بالمراجعة. نظرا إلى بعضهما وتحاورا دون كلام، قبل أن ينخرطا في ضحك هستيري، بما يوحي تلقيهما وفهمهما الإشارة دون حاجة إلى عناء تفكير أو جهد مضاعف.
قسوة الوالدين
رغم قسوتهما عليه في صغره، لم يدخر الأب المعلم بمدرسة الانبعاث بجنان المودن، وأمه، جهدا لتوفير كل الإمكانيات اللازمة المؤمنة لدراسته في مختلف مراحلها وعقباتها الابتدائية والإعدادية والثانوية، رغم ظروفهما الاجتماعية البسيطة ومحدودية مداخيلهما التي أحسنا تقسيمها على حاجيات الأسرة.
أما والدا حمزة فراضيان بما حققه من نقطة اعتبراها "ثمرة جد ومثابرة"، بدون أن يندما على مرحلة قسيا فيها عليه، لأهميتها في تكوين شخصيته وتوجيهه وترجيحه كفة دراسته على كل هواياته، مقدرا حجم تعبهما وشقائهما وتضحياتهما وتفانيهما في سبيل توفير تكاليفها على حساب عيش الأسرة أحيانا.
لذلك يعتبرهما مثله الأعلى ولا يتوانى في استشارتهما في كل قرار قد يتخذه ويخص مستقبله الدراسي وبحثه المضني عن مؤسسة لإتمام تعليمه الجامعي، تليق بمستواه المتفوق وهذا الإنجاز التاريخي الفريد لأسرة بسيطة العيش، وتحضن مؤهلاته، دون أن يخفي حلما طفوليا في أن يكون طبيبا نفسانيا.
نباهة فتى
يغتنم الفتى مناسبة نجاحه ليشكر كل من درّسه وساهم في بناء شخصيته من أصدقائه وأساتذته، كما أنه يضع في حسبانه جيدا ما فعله والداه من أجله، غير آبهٍ بقسوتهما الزائدة أو تعنيفهما إياه، فقد أدرك أن كل ذلك كان من أجل مصلحته الخاصة ومن أجل مستقبله ألا يضيع.
كما يرى حمزة أن على الشباب الاعتماد على قدراتهم الذاتية الكامنة من دون انتظار الظروف أن تصنع شيئا، لإيمانه بالعمل والجد والمثابرة مهما كانت الإمكانيات المتوفرة هامة أو بسيطة أو منعدمة، مؤكدا أن "كل تلميذ يحمل في ذاته بذرة التفوق، فقط عليه رعايتها والاعتناء بها بكل ما يملك من عزم وثقة بجد واجتهاد".
وهو بهذا التفكير يبقى من أشد الرافضين لظاهرة الغش المستشرية، لأنها بنظره "من السلبيات التي لا يمكن فصلها عن سياقات المجتمع"، لكنه يستدرك قائلا "بإمكان الشباب المغربي تجاوز هذا الداء"، مؤكدا أن الجد والمثابرة وحدهما الكفيلان بالتفوق، كي "لا ننتج أطرا نتاج شعار "من نقل انتقل و..".
اقرأ أيضا:صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"
مسار تلميذ
الساعة تشير إلى الواحدة صباحا. الحركة غير عادية في صالون شقة بسيطة، في صفرو، المدينة المغربية المشهورة بفاكهة الكرز ومهرجاناها الأقدم عربيا. كل أفراد الأسرة على "أعصابهم" منهمكون بجدية في النبش بين صفحات برنامج "مسار" الخاص بالتنقيط (نتائج الثانوية العامة)، بموقع وزارة التعليم الإلكتروني، بحثا عن نقطه.
كبارهم وصغارهم تناوبوا في حوار إلكتروني حميمي مع حواسيبهم وهواتفهم المحمولة، تباعا ودون كلل أو ملل، على إدخال كل المعلومات المطلوبة لتسهيل الولوج إلى الموقع والحصول على نقطة حمزة في امتحان البكالوريا، من دون أن تراودهم "بذرة" شك في نجاحه، لعلمهم باجتهاده وكدّه ومثابرته.
جهودهم ومحاولاتهم باءت بالفشل، رغم تكرارها عدة مرات، لعطب تقني ناتج عن الضغط المضطرد على الشبكة من قبل آلاف الشباب المبحرين في البرنامج، بحثا عن معدلاتهم بعد دقائق معدودة من إطلاقها في هذا النظام المعلوماتي المتكامل، الرامي إلى تدبير أفضل للنقط لكل التلاميذ والمؤسسات التعليمية.
صرخة عبقريّ
الجو تكهرب بمرور الساعات واستمرار فشل كل المحاولات. وأيقن الجميع بضرورة تأجيل البحث إلى حين يخف فيه الضغط على الشبكة. لكن صرخة مدوية أطلقها حمزة، أخرجت الجميع من غفوته، اعتقادا بحدوث مكروه لهذا الفتى في 11 يوليو/تموز 1997 في حي ستي مسعودة في صفرو الجميلة.
"ماما، بابا. خارق، مذهل".. جمل انسابت باسترسال من فم حمزة تلميذ شعبة العلوم الفيزيائية في مؤسسة الياسمين، الناجح ليس في الحصول على نقطه إلكترونيا، بل في محو "نحس" رافق البحث. تطلع الكل إليه وهو ينط بين الأرائك فرحا ويعانق الواحد تلو الآخر منهم، مذرفا دموع فرحة لا توصف.
19.41 من 20 هو المعدل الذي حصل عليه في امتحانات البكالوريا التي تعتبر أكبر عقبة يجتازها كل تلميذ في أنحاء الوطن العربي كافة.
بعد سماع هذا الخبر، دخل الجميع في حالة "هستيريا" فرح بتفوق توقعونه بدون أن يدروا أنها ثاني نقطة وطنيا، إلا بعدما تداولت وسائل الإعلام ذلك. حينها أيقن الفتى أهمية تحقيقه جزء من حلم والديه البسيطين اجتماعيا.
دموع أمّ
وهو يرقص ابتهاجا، انتبه حمزة إلى دموع أمه المجازة في الدراسات الإسلامية، المنسابة حارّة على خديها فرحا وندما على تعنيفه من قبل، قبل أن يرتمي في حضنها، كما لو كان طفلا رضيعا باحثا عن حليب يغذّيه. حينئذ اكتشف سر بكائها. ولكنها لم تجد بدا من الاعتذار له عما بدر منها من تعنيف حينما كان صغيرا.
معا استعادا شريط ذكرى طفولته لما كانت المراجعة والحفظ آخر ما يفكر فيه طفل يقضي جل وقته في الشارع يلاعب أقرانه، دون اكتراث بواجباته الدراسية، ما حير والديه اللذين لم يتوانا في محاولاتهما جبره على "أجندة" وضعاها ولم ينضبط لها، لمراهنتهما عليه أملا في استثماره رأسمالا يذيب فقرهما.
تذكر الفتى يوما تحول فيه جسده الصغير إلى "ركح" تركت فيه الأم بصمات جلده، بعد تخلصه من كتبه بسلالم المنزل ولعبه الكرة، وإيهامها بالمراجعة. نظرا إلى بعضهما وتحاورا دون كلام، قبل أن ينخرطا في ضحك هستيري، بما يوحي تلقيهما وفهمهما الإشارة دون حاجة إلى عناء تفكير أو جهد مضاعف.
قسوة الوالدين
رغم قسوتهما عليه في صغره، لم يدخر الأب المعلم بمدرسة الانبعاث بجنان المودن، وأمه، جهدا لتوفير كل الإمكانيات اللازمة المؤمنة لدراسته في مختلف مراحلها وعقباتها الابتدائية والإعدادية والثانوية، رغم ظروفهما الاجتماعية البسيطة ومحدودية مداخيلهما التي أحسنا تقسيمها على حاجيات الأسرة.
أما والدا حمزة فراضيان بما حققه من نقطة اعتبراها "ثمرة جد ومثابرة"، بدون أن يندما على مرحلة قسيا فيها عليه، لأهميتها في تكوين شخصيته وتوجيهه وترجيحه كفة دراسته على كل هواياته، مقدرا حجم تعبهما وشقائهما وتضحياتهما وتفانيهما في سبيل توفير تكاليفها على حساب عيش الأسرة أحيانا.
لذلك يعتبرهما مثله الأعلى ولا يتوانى في استشارتهما في كل قرار قد يتخذه ويخص مستقبله الدراسي وبحثه المضني عن مؤسسة لإتمام تعليمه الجامعي، تليق بمستواه المتفوق وهذا الإنجاز التاريخي الفريد لأسرة بسيطة العيش، وتحضن مؤهلاته، دون أن يخفي حلما طفوليا في أن يكون طبيبا نفسانيا.
نباهة فتى
يغتنم الفتى مناسبة نجاحه ليشكر كل من درّسه وساهم في بناء شخصيته من أصدقائه وأساتذته، كما أنه يضع في حسبانه جيدا ما فعله والداه من أجله، غير آبهٍ بقسوتهما الزائدة أو تعنيفهما إياه، فقد أدرك أن كل ذلك كان من أجل مصلحته الخاصة ومن أجل مستقبله ألا يضيع.
كما يرى حمزة أن على الشباب الاعتماد على قدراتهم الذاتية الكامنة من دون انتظار الظروف أن تصنع شيئا، لإيمانه بالعمل والجد والمثابرة مهما كانت الإمكانيات المتوفرة هامة أو بسيطة أو منعدمة، مؤكدا أن "كل تلميذ يحمل في ذاته بذرة التفوق، فقط عليه رعايتها والاعتناء بها بكل ما يملك من عزم وثقة بجد واجتهاد".
وهو بهذا التفكير يبقى من أشد الرافضين لظاهرة الغش المستشرية، لأنها بنظره "من السلبيات التي لا يمكن فصلها عن سياقات المجتمع"، لكنه يستدرك قائلا "بإمكان الشباب المغربي تجاوز هذا الداء"، مؤكدا أن الجد والمثابرة وحدهما الكفيلان بالتفوق، كي "لا ننتج أطرا نتاج شعار "من نقل انتقل و..".
اقرأ أيضا:صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"