01 نوفمبر 2024
"الشرخ الأوسخ" الكبير
حينما نجيل النظر في بلاد منطقتنا نشهد أوضاعا لا يمكن بحال تصديقها من الناحية السياسية، ولا من الناحية الإنسانية، يتضح ذلك فيما يتعلق بالشرق الأوسط، ذلك المفهوم الغائم العائم الذي يتحدّد بمنظور جغرافي هو تارة الشرق الأوسط، وتارة أخرى الشرق الأوسط الجديد، وثالثة الشرق الأوسط الموسع، ورابعة الشرق الكبير، مقاس الشرق الأوسط بمقاس الدول المهتمة بالمنطقة، وليس بمقاييس أهلها، يبدو الأمر هو أوسط بالنسبة لمن، ومن يعمل لمصالحه فيه؟ ويستهدف تلك المنطقة التي تمثل عقدة استراتيجية، كما يرى استراتيجيون وخبراء عركوا المنطقة، وعرفوا أهميتها الاستراتيجية القصوى.
وحينما نستكشف خرائط المآسي في هذه المنطقة التي تضيق وتتسع مع خريطة المصالح، وتقفز إلى الواجهة خريطة المظالم وخرائط الاستبداد في المنطقة وخرائط المصالح الإستراتيجية وخرائط الإرهاب، نجد أن خرائط المظالم لا يهتم بها أحد، أما خرائط الاستبداد وخرائط المصالح الغربية فتكاد تكون متطابقة، ولا بأس ببعض كلامٍ هنا عن حقوق الإنسان والحريات غطاء لمصالح ينفذها الغرب وفق عقد مع المستبد. وهنا تصير مصالح المستبد في قمع شعبه تحت دعوى الاستقرار أو محاربة الإرهاب هي دعوى مصالح تلك الدول، حينما تتحدّث عن استقرار المنطقة على ما هي عليه أمراً واقعاً، فيدعم المستبد من كل طريق.
إلا أن مفهوم الشرق الأوسط ليس فقط هو المفهوم الغائم الوحيد، ولكن تحدث في المنطقة نفسها عمليات تبرير مختلفة تعتمل في المنطقة، وتعمل في الحقيقة على تفتيتها وتقسيمها، فتمثل تلك
من هنا، سنرى هذا التغييم والتغييب المتعمد لحقيقة القضية الفلسطينية، فالصراع العربي الصهيوني صار نزاعا فلسطينيا إسرائيليا، وصارت كل الدول تعمل لمصلحة إسرائيل، وتحاول وأد كل الحقوق التي تتعلق بفلسطين، والتي كانت قضية مركزية، يحاول بعضهم أن يدفعها إلى الهامش، يسند ذلك فريق من المتصهينة العرب، برز بقوة يبرّر ويحاول أن يطمس القضية، ويمرّر مفهوم السلام الإسرائيلي الذي يعبر، في حقيقته، عن تنازلات إستراتيجية، وعن استسلام خطير، وبدا بعضهم يتحدث عن الحلول العاقلة، بدلا من الحلول العادلة، صارت تلك الحلول العاقلة قرينة تسوياتٍ ظالمة، يبشر هؤلاء من خلالها باستقرار المنطقة. وفي الحقيقة، لا تبحث تلك الحلول إلا عن مسالك الاستقرار بالنسبة للكيان الصهيوني، ولا يهمها غيره.
ومن أخطر ـ أيضاً ـ ما يحاول المتصهينة العرب تمريره المحاولة في الفتّ في عضد مفهوم المقاومة، ومحاولة إخفاء مفاهيم، مثل الاحتلال والاغتصاب والاستيطان، وهم في ذلك يحاولون، عن عمد، للخلط بين الإرهاب والمقاومة، في محاولة لتجريم مواجهة الغصب والاحتلال، وبما يخدم مصلحة الكيان الإسرائيلي في التوسع، ومزيدا من الاستيطان، ويصاحب ذلك خلط بين الإرهاب والإسلام، وبشكل متعمد ضمن بيئة تصنع "الإسلاموفوبيا"، وتشيطن كل تكوينات الإسلام السياسي، وتخرج الدعاوى من هنا أو هناك تحت قعقعة السلاح، مطالبةً بما يسمى تجديد الخطاب الديني، يلوذ بذلك المستبد، ويطالب به الغرب. لكن في حقيقة الأمر، يصمت الجميع في معظمهم عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، هذا الخلط المتعمد إنما يصنع حالة مصادمة للثقافة الأساسية الغالبة، بما يعبر عنه الإسلام في رحابته ووسطيته.
تشكل أنواع الخلط هذه بيئة حقيقية لتمرير حال الاستبداد الذي ليس بعيدا عن معادلة الإرهاب، فالإرهاب يتغذّى على الاستبداد، والاستبداد يتعلل في قمعه وطغيانه في استناده إلى مقولة محاربة الإرهاب، ويوصلنا ذلك كله إلى حال استثناء الشعوب، وتنميتها وتجاهلها، في معادلة التغيير وصناعة الاستقرار، والنظر إلى المنطقة كعالم أشياء؛ جغرافيا ومصالح استراتيجية من دون أي حسابٍ لإرادة الشعوب وحضور البشر، وكأننا نعود إلى المقولة الاستعمارية التقليدية نفسها "أرض لا صاحب لها"، ويصاحب ذلك أمر يتعلق بترويج عالم المستبدين وعالم الغرب، أن شعوب هذه المنطقة غير مؤهلة بعد للديمقراطية أو هم لا يستأهلونها، وتحاول، بشكل أو بآخر، تحت عنوان التعدّدية أن تبرّر حالات من الطائفية والطيفنة والمحاصصة، بحيث يكون ذلك مقدماتٍ لعمليات تفتيت وتقسيم وتهجير.
نقول لهؤلاء كلهم، حينما تشكلون لهذه البيئة، فإنكم تقيمون شرخا أوسخ، تحت اسم الشرق
معادلة الشعوب والحفاظ على كرامتها هو درس الثورات الأكبر في البلدان العربية، وإن التعبير عن إرادة تلك الشعوب في أوطانها، وعبر تلك المنطقة الكبرى، هو المعنى الحقيقي لاستدامة الاستقرار، فإن قوانين الاستقرار الظاهر، وبعبارة أدق الزائف، لا يمكنها أن تغطي على حقيقة الأزمات الهيكلية والبنيوية، ولا يمكن أن تشكل طلبا حقيقيا على هذا النوع من الاستقرار الزائف، بين الاستقرار الزائف والاستقرار الحقيقي بون شاسع، لأن قوانين استمرار الاستقرار تجعل من مضمونه وجوهره شأناً آخر، لابد أن يستند لحق الميزان وحقائق التوازن وسياقات الموازنة "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان"، و"ألا تطغوا في الميزان".
التلويح بالتفكيك والتفتيت باعتبارهما حلا إنما يشكل تبشيرا بانفجار كبير، وهو عامل لعدم الاستقرار وحقائق واضحة تشير إلى عدم الاستمرار، حتى لو كان ذلك تحت كلماتٍ لطيفةٍ، مثل "الفيدرالية"، وكلمات خبيثة مثل "اقتسام السلطة والثروة"، ويعني ذلك كله، ضمن ما يعني في هذه الرؤية، أن هذا "الشرخ الأوسخ" لابد وأن نفطن إلى مآلاته الأقبح والأخطر، وأن ذلك لا يعد بناء لشرق أوسط جديد أو كبير يملك قدراته الذاتية، وقراره الرشيد في التعامل مع أزماته البنيوية، ونؤكد، في هذا المقام، أن أهل المنطقة ليس لهم أن يطلبوا العدل من غيرهم ومعادلات التفكير والتدبير والتسيير والتغيير في الداخل مختلة، لا يسندها ميزانٌ أو توازنٌ حقيقي. وعلى هذا، فإن معادلات الاستبداد وعقد الأولوية لمحاربة الإرهاب، من دون الوقوف على خرائط المظالم والتهميش التي تراكمت مع التغافل والقفز على متطلبات الشعوب وضروراتها، وأن كل المشكلات التي يتوجه إليها الغرب بدعوى المعالجة من "اللاجئين" أو ما شاكلها، لهو تركيز على العرض، من دون أسباب المرض، كل هذا أخطر ما يهدّد ميزان الاستقرار والاستمرار.
مرة أخرى، فلْنجلِ النظر في أرجاء المنطقة والأزمات التي تتعلق بها، سنشهد كلاما كثيرا عن حقوق الإنسان، والتدخل الإنساني، والمساعدات الإنسانية، والممرّات الانسانية، والإغاثة الإنسانية، والهدن الإنسانية؛ ومع ذلك يموت الإنسان بالآلاف، وقد اعتاد قاطنو المنطقة أن يروا ذلك بشكل طبيعي، واعتاد الغرب أن يرى ذلك طبيعيا كذلك، من خلال تجريب أسلحته في معمل تجارب، واعتاد التطرّف والإرهاب أن يكون مستخفا بحرمة الإنسان، ويموت الناس على الرغم من خطابات الإنسان المزعومة والزاعقة، وعلى الرغم من أن الجميع يحاولون الحديث عن الحفاظ عليه وحمايته، وأيديهم تقطر دما، فلا المستبد يهتم بإنسان المنطقة، ولا الغرب يهتم بإنسانها، والإرهاب والتطرف يستحلّ كل نفس، فإلى أين المصير؟ هل يمكننا أن نخرج على هذا الشرخ الأوسخ الذي صرنا نرى آثاره في كل مكان؟ في بلادنا.. ليس لدينا إنسان، هذه هي مشكلة الأوطان.