"الذّنب اللبناني"

12 ابريل 2016
+ الخط -

"يدرك من بقي سلبياً لا يحرّك ساكناً أنه قد أذنب أخلاقياً، كل مرةٍ لم يلبِّ فيها النداء، ولم يستغلّ كل فرصةٍ لحماية من كانوا في خطر، لتخفيف الظلم، وللمقاومة. وحتى حين يكون الرضوخ عجزاً، تبقى هناك فسحةٌ ما للتحرّك، وإن كانت لا تخلو من مجازفةٍ (...) يجب أن نعترف، كأفراد، أننا مذنبون أخلاقياً لتفويتنا فرصاً كهذه. إن التعامي عن شقاء الآخرين، وغياب مخيلة القلب، واللامبالاة الداخلية حيال الشقاء الذي يلطم النظر، كلها تشكّل ذنباً أخلاقياً".

هذا مقطع من كتاب "الذّنب الألماني" (1946) للفيلسوف الألماني كارل ياسبرز الذي آمن أن شرط إحياء ألمانيا، أخلاقياً وسياسياً، بعد انهيار النازية، هو في وعي ألمانيا والألمان (وهو منهم) ذنبهم الجماعي، وقد حدّد أربعة أنواع من الذنب هي: الإجرامي، وهو مسؤولية المحاكم، السياسي الذي يقرّره المنتصرون، الأخلاقي الذي لا يمكن لأي ضمير أن يفلت منه، والميتافيزيقي الذي يحاكم عليه الإله.

قلة من الألمان اهتموا بموضوع الذنب، أو ناقشوا الفكرة علانيةً، بعد انهيار النازية وخسارة ألمانيا الحرب. حتى الفيلسوف مارتن هايدغر ابتعد عن الموضوع ولم يتناوله، على الرغم من أنها مسؤولية من يمثلون المراجع الأخلاقية في الميدانين، الفلسفي أو الثيولوجي، فكان ياسبرز أول الفلاسفة الذين تحدّثوا عن ضرورة الشعور بالذّنب، جماعياً وفردياً، بمعنى تقاسم المسؤولية. في شتاء 1945/1946، اعتبر ياسبرز أن الفكر الألماني، السياسي والأخلاقي، يعيش لحظةً حاسمة. ففي حين كان الحلفاء يسعون إلى وضع سياسةٍ لإعادة تثقيف سياسية للشعب الألماني، كان هو يحاضر، في طلابه، أن هزيمة النازية فرصةٌ لا تفوّت، متسائلاً هل سنشهد ولادة دولة ألمانية مرتكزة على انقلاب الوعي السياسي لدى القادة السياسيين، ولدى الشعب؟ أم أنه سيبقى تجمّعاً من دون لحمةٍ داخلية، من غير جذورٍ في قلب الشعب وروحه، ومن دون وعي سياسي جديد؟ وضع الحوار، تبادل الآراء، وحرية التعبير في المصاف الأول، معتبراً أن الشرّ المطلق يكمن في انعدام التواصل، الحوار، والسجال السياسي، وإلا فلن تظهر الحقيقة، مفهوماً يحتل مركز فكره الفلسفي.

كان ياسبرز الذي أُحبط، لاحقاً، من ردود فعل الألمان على ما ارتكبوه، ومن عدائهم لمواقفه، والذي تخلى عن جنسيته الألمانية، ولجأ إلى سويسرا، يرمي إلى إيقاظ وعي طلابه بذنبهم كألمان، بانياً عليهم الآمال بتكوين أخلاقيةٍ جديدة، تقوم على رفض الديكتاتورية واختيار الحرية السياسية التي ترتكز، برأيه، على الإرادة الفردية والجماعية بتحمّل المسؤولية، وإلا ساد حيال السياسيّ الحذر واللامبالاة.

بعد خسارة ألمانيا النازية أمام الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية، تفكّكت الدولة الألمانية بين الأعوام 1945 – 1949، فوجدت البلاد نفسها غارقةً في فوضى شاملة، مع بنى تحتية مادية واقتصادية منهارة كلياً، بحيث أطلق على تلك الحقبة، لاحقاً، لقب "زمن الخراب". وقد بقيت ذكرى العام 1945 محفورةً في الذاكرة الجماعية الألمانية على أنها "ساعة الصفر"، أي ساعة الهزيمة والانهيار الوطني الشامل. والحال أن المناطق التي احتلها الحلفاء عانت من مصاعب اقتصادية واجتماعية جمّة، زادها سوءاً تدفق أعداد هائلة من النازحين، خصوصاً ما بين نهاية 1944و1947، حيث اختلط اللاجئون الهاربون من الاحتلال الروسي ومن المحاسبة مع الهاربين من معسكرات الاعتقال ومعسكرات الموت.

ثمّة ما يذكّر، ولو من بعيدٍ جدا، بما نحياه اليوم في بعض البلدان العربية، من فوضى وخراب وانحلال كامل لمؤسسات الدولة، معناها ووظيفتها، وعلى الأخص في لبنان. ثمّة ما يدعو إلى التفكير بالمسؤولية الجماعية، بعد حربٍ أهليةٍ دامت 15 عاماً، تبعتها 26 سنة من فقدان الذاكرة والهروب، أتت على كل ما يمنح أملا بإمكانية الخلاص. "الذنب اللبناني"، هذا ما نحتاج إليه ربما. إرادة الاعتراف بالذنب، فردياً وجماعياً، وتقاسم المسؤولية، لربما تدقّ حينها ساعتنا الصفر. 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"