ضمن دراسات الثقافة المادية، تميل كثير من الباحثات اليوم إلى دراسة الأزياء للبحث في تاريخ النساء، حيث شكلت الأزياء ليس فقط مظهراً يزيد من جمال المرأة وأناقتها بل إنه شكل من التعبير عن الهوية من جهة، والعلاقة مع المحيط الاجتماعي من جهة أخرى، ويفاجأ من يقرأ تاريخ الأزياء النسائية الكم في أسرارها وخفاياها.
ما فعلته الباحثتان باربرا بورمان وآريان فينيتو أنهما درستا تفصيلاً وسراً من هذه الأسرار على امتداد قرنين تقريباً، وفي كتابهما "الجيب: تاريخ خفي لحياة النساء، 1660-1900" (منشورات يال) تجمع الكاتبتان صوراً نادرة وتفاصيل تاريخية واقتصادية واجتماعية من خلال رواية قصة الجيب السري الذي كانت تستخدمه النساء في ملابسهن.
كان هذا الجيب الذي تطرزه صاحبته معظم الوقت عبارة عن قطعة تلبسها المرأة حول الخصر تحت الثوب النسائي، حيث كان عنصرًا أساسيًا في خزانة ملابس النساء خلال الفترة المشمولة بالبحث، وخدم وظيفة مماثلة لحقيبة اليد الحديثة.
يذكر هذا الكتاب بكتاب آخر يعد تأسيسياً في هذا الحقل، وهو كتاب الباحث جيمس ديتز "الأشياء الصغيرة المنسية" الذي صدر عام 1977، وكان له صدى كبير وقتها وما زال يعد من الأعمال الرائدة في تقديم الرواية التاريخية للتغيرات الاجتماعية من خلال أشياء وحاجيات وملابس ومقتنيات مهملة وغير مكترث لها، والمفارقة أن هذا الكتاب نفسه أصبح من الأعمال المنسية اليوم، فقد تراكم بعده في حقل تاريخ الأشياء العديد من الكتب البارزة.
يذكر الكتاب بغياب أبحاث مماثلة في الثقافة العربية
تستخدم المؤلفتان الجيب كمفتاح لفهم مجموعة من القضايا في حياة المرأة في القرون السابع عشر وحتى مطلع التاسع عشر، وتفردان فصولاً لاستكشاف هذه الأفكار بالتفصيل، فنجد فصولاً حول أنواع الجيب وكيفية صناعتها والمعاني من وراء ملكيتها واستعمالاتها.
على الرغم من أن الكتاب يتوقف عند شيء صغير وفردي، إلا أن بورمان وفينيتو تتعاملان فيه أيضاً مع الأفكار الكبيرة، مثل البحث في قضايا تتعلق بالخصوصية والتنقل أو التواصل الاجتماعي وتبادل الرسائل والأسرار العاطفية والجنسانية والحياة الجنسية، فيجري بناء هذه الثنائية/ المفارقة بين الصورة المصغرة الحرفية للجيب والسياقات الكلية للثقافة الاجتماعية في ذلك الوقت.
العمل أيضاً مليء بالصور التي تكشف الوقت والجهد وتنقلات الكاتبتين بين المتاحف بهدف التقاط الصور أو جمعها لتقديم أمثلة بصرية للقارئ، وتوضح هذه الصور والتعليقات والشروحات عليها كيف اشتركت كل النساء على اختلاف طبقاتهن في امتلاك هذا الجيب السري في طيات ملابسهن، ولكن المحتويات كانت مختلفة من عاملة مصنع إلى دوقة أو نبيلة من النبلاء أو بائعة هوى.
هذه الأبحاث تلفت إلى غياب نظيرة لها في الثقافة العربية، فالاهتمام بتاريخ الأشياء والتفاصيل وعلاقتها بالتقلبات والتغيرات الاجتماعية والثقافية بل والسياسية حقل ما زال مفتقداً في مجال الدراسات الأكاديمية أو حتى الكتب التي تعنى بالتأريخ للتحولات الثقافية.