بمشاهد بانورامية التُقطت مِن علٍ لمظاهراتٍ في شارع ديدوش مراد وشوارع قريبة منه في الجزائر العاصمة، مرفقةٍ بهتافات "الشعب لا يريد بوتفليقة والسعيد"، يبدأ فيلم "الجزائر حبيبتي"، الذي بثّته القناة الفرنسية الخامسة الثلاثاء الماضي وأثار انتقاداتٍ واسعة من الجزائريّين على مواقع التواصل الإعلامي، في سرد روايته عن الحَراك الشعبي في الجزائر.
بعد صُوَر سريعة لمظاهراتٍ في مدنٍ جزائرية أُخرى وفي تواريخ متفرّقة، بدءاً من أولى أسابيع الحَراك، إلى الحملة الانتخابية لرئاسيات كانون الأول/ ديسمبر 2019، تُرافقها هتافات "الشعب يريد يروحوا قاع" وتعليقٌ يُخبرنا بأنّ المظاهرات عمّت جميع مناطق البلاد "من وهران إلى العاصمة ومن عنابة إلى تمنراست"، يعود بنا الوثائقيُّ (70 دقيقة) مجدَّداً إلى العاصمة بوصفها بؤرةً للأحداث.
لاحقاً، نبدأ بالاستماع إلى خمسةِ أصواتٍ لشبّان جزائريّين "وُلدوا وعاشوا في فترة حُكم عبد العزيز بوتفليقة"؛ أكبرُهم سنّاً في التاسعة والعشرين، وأصغرهم في العشرين من عمره. مِن الواضح أنَّ السؤال الذي وُجّه إلى خمستِهم هو: كيف عشتَ لحظة 22 شباط/ فبراير 2019؟ هكذا جاءت الأجوبةُ متقاربةً لجهة أنَّ انطلاق الحَراك الشعبي بذلك الزخم كان مفاجئاً لهم، وأنه كان بمثابة حُلمٍ شخصي لكلّ واحد منهم، حلم يعبّر عن صحوة أو استفاقة شعب، وفق تعبيرهم.
قبل أن يُواصلَ الشبابُ الخمسة أحاديثهم، يعود بنا الوثائقي إلى الوراء بأكثر من نصف قرن من خلال صُوَر بالأبيض والأسود لاحتفالات الجزائريّين باستقلال بلادهم في الخامس من تمّوز/ يوليو 1962، ثمّ يطرح المعلّق سؤالاً غريباً: "من كان يتصوّر أن يخرج الجزائريون، بعد 57 عاماً، للمطالبة برحيل "جبهة التحرير الوطني"، هذا الحزبُ الذي أوصل البلاد إلى طرقٍ مسدودة ورهن ثرواتها وتاريخها؟".
مكمنُ الغرابة في هذا السؤال يتمثّل في أنه يتصوّر أنّ الجزائريّين انتظروا أكثرَ من نصف قرنٍ ليطالبوا برحيل حزب السلطة، بينما الحقيقةُ أنَّ الاصطدام معه بدأ باكراً جدّاً؛ فبعد أقلّ من سنةٍ من الاستقلال، استقال حسين آيت أحمد - وهو أحد قادة الثورة التحريرية - من المجلس التأسيس، وأسّس حزباً معارضاً، ثم لم يلبث أن حمل السلاح ضدّ رفقاء الأمس. وبعد 25 سنةً من ذلك، أي في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1988، ستشهد البلاد أكبر ثورةٍ شعبية ضدّ السلطة ممثّلةً بالحزب الأوحد. وبين تشرين الأول/ أكتوبر 1988 وشباط/ فبراير 2019، لم تتوقّف مظاهر رفض ممارسات السلطةِ وأجهزتها؛ سواء كانت ممثَّلةً في "جبهة التحرير الوطني" أو في ما شاكله من أحزابٍ وفعاليات سياسية، وقد اتّخذت تلك المظاهرُ أشكالاً دراماتيكية غير ما مرّة.
يعود الوثائقيُّ إلى الشباب الخمسةِ ورواياتهم الشخصية لما حدث، مع ربطه بالماضي القريب متمثّلاً بالعشرية السوداء التي تَظهر كحدثٍ يؤكّد، من جهةٍ، ارتباطَ الحاضر الذي يُخيّم عليه اليأس بالماضي الذي خيّمت عليه الدماء والدموع. أحد المتحدّثين شابةٌ في السادسة والعشرين، قتل إرهابيون والدها الذي كان شرطياً عام 1997. مِن جهة أُخرى، تحضر هذه المرحلةُ بالنظر إلى كونها مبرّراً لاستمرار حُكم بوتفليقة "الذي قضى على الإرهاب وجاء بالأمن"، وهي الاستمرارية التي أدّت فيما بعدُ إلى خروج الجزائريّين في مظاهرات رافضة للعهدة الخامسة.
يُركّز الشريط على الجانب النفسي للشباب الجزائري الذي يعيش وضعاً خانقاً يجعلُ "الشاب العشريني يشعر بأنه في الستّين من عمره". لكنَّ المفارقة أنه ينقلُ هذه الصورة على لسان شابٍ عشريني من الجزائر العاصمة، يبدو أنه يعيش حياته طولاً وعرضاً. ماذا عن شبابٍ في مثل عُمره في مناطق نائية ومعزولةٍ في البلاد؟ بالتأكيد وضعُه أفضل من أوضاعهم بشكلٍ لا يُقارَن.
ستقودنا هذه الجزئية إلى طبيعة الأشخاص الذين اختيروا ليتحدّثوا في الوثائقي؛ فما يجمعُهم، إضافةً إلى أعمارهم المتقاربة، أنّهم ذوو مستوياتٍ تعليمية عالية (محامٍ وفنّيةُ سينما وطالبٌ ومهندس وطبيبة أعصاب)، وينتمون إلى خلفياتٍ ثقافية وأيديولوجية متقاربة، يتحدّثون بالفرنسية ويُفكّرون في طُرُقٍ متقاربة أيضاً، إذ تقتصر أحاديثهم على الحريّات الشخصية مثل حرية تبادُل القُبَل في الفضاء العام، دون التطرُّق إلى المطالب التي رفعها الحراك، مثل تحقيق الديمقراطية واستقلال القضاء، كذلك فإنهم ينتمون إلى مناطق محدّدة: اثنان منهما من الجزائر العاصمة، واثنان من تيزي وزّو، وواحدٌ من وهران.
لا وُجود لشبابٍ من مُدنٍ جزائرية أُخرى، من الجنوب مثلاً، لا وجودٍ لشبابٍ يتحدّث باللغة العربية، حتّى وإن كان يُعبّر عن الآراء نفسها. وهذا يُحيلنا مجدَّداً على الصور الأكزوتيكية الدارجة (الجنس والمرأة والدين) في الخطاب الغربي؛ سواءٌ اتّخذ أشكالاً صحافيةً أو أدبية أو سينمائية، وهي صُوَرٌ لا تنتجها المخيّلة الغربية فحسب، بل ينخرط بعض الجزائريين في صناعتها عن أنفسِهم، من منطلقاتٍ أيديولوجية أو لأسباب تسويقية بحتة.
ما فعله مخرج "الجزائر حبيبتي"، مصطفى قسوس (1979)، وهو صحافيٌّ مُتخصّص في الصحافة الرياضية وُلد وعاش في فرنسا، لا يخرجُ عن هذا الإطار الاختزالي والانتقائي. ومن الواضح أنه كان يبحثُ عن صوتٍ واحدٍ لعمله، وإن تعدّدت الأصواتُ التي تتحدّث فيه؛ ففي ردّه على سؤالٍ لجريدة "الوطن" الجزائرية (الثلاثاء 26 أيار/ مايو 2020) عن سبب اقتصار عمله على النخب الحضرية والفرنكوفونية في الجزائر، أجاب بالقول إنه اختار في البداية أشخاصاً من مختلف الطبقات الاجتماعية مِن الشمال والجنوب والشرق والغرب، لكنَّ بعضهم واجه صعوباتٍ في الانخراط في العمل، "لأن هذا النوع من الأفلام يتطلب التزاماً تامّاً". وليست واضحةً طبيعةُ هذا الالتزام الذي يتحدّث عنه: التزام مرافقة الوثائقي طوال أشهر من التصوير، أم القدرة على التعبير عن الآراء وتحمُّل تداعيات ذلك؟
لكن، هل علينا أن نلوم هؤلاء الشباب؟ بالتأكيد لا، فلا أحد منهم زعم أنه يتحدّث باسم الحراك. في النهاية، عبّروا عن آرائهم الشخصية التي علينا أن نحترمها (الحرياتُ كانت وستبقى جزءاً من مطالب الجزائريين)، بغضّ النظر عمّا إذا كانت تُعبّر عن أقليةٍ أو أغلبية في المجتمع الجزائري، وفي حراكه الشعبي. هُم ليسوا مسؤولين عن السياق الذي وُضعت فيه تصريحاتهم التي لا يُستبعد أنها اجتُزئت عن سياقاتها، وربما لم يكونوا ليواجهوا ما واجهوه من انتقاداتٍ لو أنَّ الوثائقيَّ تضمّن آراء مختلفة؛ لشبّان جزائريّين ذوي خلفياتٍ دينية أو يحلمون بدولةٍ إسلامية مثلاً.
أثار العمل استياء كثير من الجزائريّين الذين رأوا فيه إساءةً إلى حراكهم، في حين استدعت وزارة الخارجية الجزائرية سفيرها لدى باريس "للتشاور"، معتبرةً أنّ الشريط يتضمّن "تهجّماً على الشعب الجزائري ومؤسّساته". لكن، هل ينتقصُ الوثائقيُّ من قيمة الحراك السياسية والرمزية؟ ربما لا؛ ذلك أنَّ الحراك الشعبيَّ لا يُختزَل في وثائقيٍّ فضّل نقل الصورة من الزاوية التي تُناسب أصحابه. أمّا بالنسبة إلى المصابين بـ"الحراكوفوبيا"، مِن السلطة والشعب في آن واحد، فهُم لا ينتظرون شريطاً وثائقياً تعرضه قناة فرنسية ليقولوا إنَّ الحراك المستمرّ يقوده "شواذ وملحدون وأبناء فرنسا" كما ورد على لسان وزير سابق، وأنه "انطلق بعد اجتماعٍ عُقد في باريس"، كما قال أحدُهم في قناةٍ تلفزيونية عمومية قبل أيام!