"التّوفري" للمصطفى فاكر: ثقافة الاستسهال

26 سبتمبر 2019
الممثلة المغربية السعدية أزكون (فيسبوك)
+ الخط -
عادة، نتلافى الكتابة عن أفلامٍ لا نحبّها، وفاءً لمنهج إيريك رومر، في فترة رئاسته تحرير "دفاتر السينما"، الذي يقضي بإعطاء الأولوية لأفلامٍ يحبّها النقّاد فيكتبون عنها، وتجاهل الأفلام السيئة قدر الإمكان، ليكون مصيرها النسيان، تجنّبًا لإحساس ملاكمة أكياس فارغة، ينتابنا كلّما خضنا مقارعة غير متكافئة مع أفلامٍ تنهار كقصر من ورق، عندما يُقاربها النقد والتمحيص. 
لكنّ توالي "الكوارث الفيلمية"، بغطاء التاريخ عمومًا، وسيناريوهات مقاومة الاستعمار، المسنودة من صندوق الدعم العمومي خصوصًا ـ يستدعي قرع جرس الإنذار حول أزمة حقيقية، أضحت مؤشرات التواتر والتشابه تدلّ عليها.

آخر هذه الأفلام "التّوفري" للمصطفى فاكر (إنتاج سعيد مرنيش، عن سيناريو لخالد الخضري): عائلة قروية تُعاني تعسّف قائدٍ متواطئ مع الاستعمار الفرنسي، مطلع القرن الـ20، فيلتئم أبناؤها عفويًا في حركة مقاومة، ما يوقظ شرارة الثورة على الاستغلال بين سكّان القرية جميعهم.

التّوفري مصطلح مغربيّ "دارج"، مستوحى من تعبير فرنسي يعني "بارد للغاية"، يُطلق على حفر عميقة كان القرويون يجعلونها مخزنًا لمؤونتهم، فأضحت مقارًا للاختباء وإخفاء الأسلحة عن المستعمر الفرنسي، وأزلامه.

قبل إطلاق عروضه، أثار "التّوفري" زوبعة من المقالات حول اعتزام ممثلين وتقنيين، بالإضافة إلى السيناريست، مقاطعة العرض ما قبل الأول، ومقاضاة المنتج بسبب عدم حصولهم على حقوقهم، كما هو منصوص في العقود الموقَّعة. لكن، أوّل ما يثير الاستغراب في الفيلم سقوط الحكي بشكل كاريكاتوري (غير مقصود) في تكرار تهديدات لفظية لطرفي الصراع، وفاءً لأسلوب مباشر يُمعن في شرح الواضح وإظهار الفاضح، بعيدًا عن "شُبهة" التلميح والإيحائية، ملح السينما ومنتهاها.

في المقابل، فإنّ أبرز مثل على الاستسهال في العمل هو الملابس (بدلات الفرنسيين وقبّعاتهم العسكرية خصوصًا)، التي تثير الإشفاق على فقر المخيّلة والمجهود. أمّا الإمكانيات، فبريئة من تدنٍّ كهذا، يتّخذ كلّ مرّة من ضعف الموازنة ذريعةً للتّجني على الفن والإبداع. الديكور مُقتّر، يصيب المصداقية في مقتلٍ، حتى قبل بدء تصوير مَشاهد اتّفق عليها، وفق أداء تمثيلي مغرق في العاطفية المفتعلة، رغم أنّ أسماء موهوبة تشارك في الفيلم، كعمر لطفي والسّعدية أزكون.
مَشاهد يُلصق أحدها في نهاية آخر اعتباطيًا، يخجل منها المبتدئ قبل المحترف، ونترفّع عن نعته بالمونتاج. أما الماكياج، فمهزلة حقيقية: أصباغ حمراء تُلقى عشوائيًا على ملابس الممثّلين، وتخرج من أفواههم بسخاء يجعلك تخمّن بكلّ أنواع السوائل، ما عدا الدماء.

مَشاهد المعارك مُضحكة ـ مُبكية: حرّاس يسقطون موتى بمجرّد أن يضغط أحدهم على أعناقهم، وبنادق تبدو الألعاب أصدق منها، وممثّلون يتظاهرون بإطلاق الرصاص بشكل مُثير للشفقة. وحين فطن المخرج، عند تفقّد المَشاهد، إلى أنّ النتيجة تشبه أيّ شيء إلا تبادل إطلاق النّار، حاول تدارك الأمر في مرحلة ما بعد المونتاج، مُضيفًا أطنانًا من الغبار المتساقط عن طريق المؤثّرات البصرية، فلم يفلح سوى في إضفاء مزيد من الهزل على المهزلة الأصلية. هذا كلّه مغمور بموسيقى تصويرية رتيبة، لا تكفّ عن الدويّ توسّلاً لانسجامٍ يفتقر الإخراج إلى أبسط أبجديّاته.

المحصّلة النهائية؟ فيضٌ من الابتذال والبشاعة، خرج بهما هذا "الشيء" الفيلميّ المموّل من "صندوق دعم الأفلام السينمائية". طبعًا، يُمكن للدعم أنْ يُصيب أو يخطئ، طالما أنّ السينما عِلمٌ غير صحيح، وسيرورة إنجاز الفيلم عرضة لعوامل كثيرة غير قابلة للتوقّع والتحكّم، تجعل من شبه المستحيل ضمان أنّ السيناريو الجيّد سيفضي بالضّرورة إلى فيلمٍ جيّد. لكن، حين يغدو حجم التفاوت مهولاً ومتكرّرًا، في حالة نوع معيّن من الأفلام، فنحن بصدد آلية أصبحت غير قادرة على الوعي بأخطائها، فما بالك بامتلاك سبل تصحيح الوضع وضمان عدم تكراره.
الدعم، كغيره من المنظومات التي يمسّها التّكلّس مع مرور الوقت وتراكم طبقات البيروقراطية، أصبح ينذر بحالة شرود وعدم تطابق مع تطوّر الواقع. المؤشّرات كلّها تشي بضرورة ثورة جذرية، تمسّ نظام التسبيق على المداخيل، بدءًا من تشكيل اللجان إلى أساليب اشتغالها، مرورًا بفلسفة الدعم. هذه الأخيرة تبقى الأهم لأنّها، على غرار الفنّ والإبداع، عصيّة على التغيير، وتتعلّق بالعقليات قبل النصوص والقوانين.
المساهمون