بدأت الجولة الأولى بزيارة قام بها داود أوغلو، المكلّف بتشكيل الحكومة، والوفد المرافق له إلى مقر الشعب الجمهوري، التقى خلالها قيادات الحزب وزعيمه كمال كلجدار أوغلو. كانت الزيارة التي استمرت لما يقارب الساعتين إيجابية للغاية، عبّر خلالها الطرفان عن رغبتهما بإنشاء "حكومة قوية"، الأمر الذي لم يكن كذلك خلال اجتماع "العدالة والتنمية" مع حزب الحركة القومية، حيث أكد زعيمه دولت بهجلي أن حزبه لن يكون جزءاً من الحكومة المقبلة، وسيبقى في مقاعد المعارضة.
اقرأ أيضاً: تركيا نحو تشكيل الحكومة: سيناريوهات الائتلاف المقبل
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية، على ما يبدو، قد حسم أمره بعدم إمكانية التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي (ذي الغالبية الكردية)، إلا أنه لم يتخل عن التقاليد السياسية التركية التي تقضي بأن يزور الحزب المكلّف بتشكيل الحكومة جميع الأحزاب المتواجدة في البرلمان، فتمت زيارة الشعوب الديمقراطي على الرغم من الخلافات الكبيرة والعداوات السياسية بين كل من صلاح الدين دميرتاش، زعيم الأخير، وداود أوغلو.
استبق دميرتاش زيارة داود أوغلو بمقابلة تلفزيونية، أجراها يوم الثلاثاء الماضي، بدا خلالها الرجل مخلصاً تماماً لعملية السلام، إذ شدد على ضرورة استئنافها. كما وضع ديمرتاش مسافة واضحة بين حزبه والعمال الكردستاني، داعياً الأخير إلى إلقاء السلاح على رغم تأكيده بأن هذه الدعوة لا قيمة لها ما لم تصدر من زعيم العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان.
وبدا واضحاً من تشكيلة الوفد المرافق لداود أوغلو بأن المحادثات بين الطرفين لا علاقة لها بمفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي، إذ حضرها عن العدالة والتنمية المسؤولون المباشرون عن عملية السلام، مثل يالجن أكدوغان نائب رئيس الوزراء، وإفكان آلا وزير الداخلية السابق. وهو الأمر الذي أكده داود أوغلو للصحافيين بعد انتهاء الاجتماع بقوله إنه "من ناحيتنا، فإننا لا ننظر إلى التقارب مع الشعوب الديمقراطي على أنه أمر إيجابي"، مضيفاً: "أنا لا أؤمن بإمكانية إنشاء تحالف صحي مع حزب لا يبدي موقفاً واضحاً من المجموعات الإرهابية"، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني.
هذه المعطيات جعلت حصيلة المشاورات الحكومية تبدو واضحة تماماً: إما التحالف مع الشعب الجمهوري وتشكيل تحالف كبير، أو الدخول في انتخابات مبكرة، وإن كان تاريخ الحكومات الائتلافية التركية منذ الخمسينات يؤكد بشكل قاطع بأن عمر الحكومات الائتلافية قصير جداً. وهو المصير الذي سيؤول إليه على الأرجح "التحالف الكبير"، إنْ كُتب له النجاح، ولا سيما في ظل الاختلافات العقائدية الكبيرة بين حزب "الليبراليين المحافظين" ذي الجذور الإسلامية، أي العدالة والتنمية، وحزب الاشتراكيين الديمقراطيين، أي الشعب الجمهوري.
تبقى الأنظار إذاً على الانتخابات المبكرة، سواء إن وقعت بعد 90 يوماً من إقرار داود أوغلو بفشله بتشكيل الحكومة أو إن وقعت بعد أربع أو ستة أشهر في حال نجح تشكيل الائتلاف. وبذلك يبدو خيار التحالف مع الشعب الجمهوري أمراً لا يسبب للعدالة والتنمية أي خسارات سياسية، على عكس التحالف مع الشعوب الديمقراطي الذي يعني الاعتراف والاستسلام لخسارة الكتلة المحافظة الكردية لصالح الأخير. كما أن التحالف مع الحركة القومية سيكلّف البلاد إيقاف عملية السلام وقد يجرها للفوضى.
حزب الشعب الجمهوري فشل خلال الـ12 عاماً الأخيرة في استمالة الكتلة اليمينية المحافظة التركية، وإن دخل الحكومة واستطاع تحقيق جزء من وعوده الانتخابية واستمرت عملية السلام، فإن ذلك سينعش شعبيته وسيستعيد 2 في المائة من الأصوات ممثلة باليسار التركي والتي خسرها لصالح الشعوب الديمقراطي، وقد ينجح في استمالة نسبة بسيطة من الناخبين الأكراد من غير المحافظين مرة أخرى. وبالتالي تصبح الانتخابات المقبلة أكثر إرباكاً للشعوب الديمقراطي، وقد تفتح الباب أمام العدالة والتنمية لاستعادة حصته التي خسرها من أصوات الأكراد في جنوب وشرق الأناضول.
وعلى الرغم من الصعوبات والعقبات الكبيرة التي تقف في وجه نجاح "الائتلاف الكبير"، يعوّل الكثير من المراقبين على هذا التحالف في عدد من القضايا.
أولاً سيؤدي "الائتلاف الكبير" إلى تطبيع العلاقات بين الطبقات المحافظة وتلك الكمالية العلمانية واليسارية مرة أخرة، بعد تاريخ طويل من حالة استقطاب شديدة عمّت المجتمع التركي.
ثانياً: سيكون لهذا التحالف أثره الكبير على الحزبين، حيث ستستعيد تشكيلات العدالة والتنمية دينامكيتها وأطرها الديمقراطية بعيداً عن سيطرة شيوخ الحزب، الذين من المنتظر أن تضعف سلطتهم في ظل الحكومة الائتلافية. كما سيشكل التحالف دفعة لقائد حزب العدالة والتنمية، أي داود أوغلو، في مواجهة قبضة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الحديدية على الأخير. أما بالنسبة لحزب "الشعب الجمهوري"، فإنه ينتظر من عودته إلى الحكم أن تعزز وتساهم في دفع التحوّل الكبير الذي قاده كلجدار أوغلو نحو اليسار الديمقراطي، والانتقال من ما يطلق عليه الحالة الكمالية المستعصية التي عانى منها الحزب طوال تاريخه إلى ما بعد الكمالية، أي نحو رؤية قومية وعلمانية أكثر هدوءاً وانفتاحاً.
وعلى الرغم من أنّ حظوظ الحكومة المقبلة في النجاح بكتابة دستور جديد تبدو ضعيفة، إلا أن بعض المراقبين يعوّلون على هذا الائتلاف في أن يساهم في تقريب وجهات النظر حيال المسألة، ما قد يساعد في فك استعصاء كتابة الدستور الجديد ولو بعد حين.
اقرأ أيضاً: مفاوضات الحكومة التركية على وقع رصاص "القضية الكردية"