كان لظهور المدوّنات كفضاء جديد للكتابة الحرة على شبكة الإنترنت أثرٌ عميق على مجالات عدّة، مثل الأدب والصحافة والنقد الفني، حيث أتاح قناة تواصل بين الكاتب وجمهورٍ مفترض دون المرور بأي وسيط، وهو ما أعطى الكتابات آفاقاً ومذاقات أخرى على مستوى الأفكار والتواصل والإخراج.
انعكاس المدوّنات على التاريخ، كمجال معرفي، كان موضوع سلسلة من الندوات القصيرة بعنوان "التاريخ في مدوّنات"، نظّمتها أوّل أمس السبت "مكتبة ستانيسلاس" في مدينة نانسي الفرنسية، للتعريف بمشروعها "Limedia"، وهو مكتبة رقمية تحاول تجميع كل ما يمكن أن يتحوّل إلى وثيقة تاريخية من كتب ومخطوطات وصور وغير ذلك، بغرض تسهيل الوصول إليها. ضمن هذه المكتبة الرقمية، جرى مؤخراً إطلاق زاوية خاصة بالمدوّنات حيث نجد نصوصاً لمؤرّخين، هواة وأكاديميين، ومكتبيين وباحثين من اختصاصات مختلفة، يتناولون مواضيع متنوعة من تاريخ اللعب والمراسلات إلى الطبعة الأولى من حكايات لافونتين مروراً بقصص ترميمات القصور أو شرح الصورة التي تظهر في بطاقة بريدية.
يشير المحاضرون، وهم من فريق "مكتبة ستانيسلاس"، إلى أن المعرفة التاريخية وجدت نفسها منذ عشر سنوات أمام رهان جديد، إذ لم تعد الشواهد التاريخية منحصرة في رفوف مكتبة أو متحف، بل بات كل من يمتلكها قادراً على إيصالها للباحث أو أي متصفّح آخر من خلال مدوّنة يبعثها بدون أي تكلفة أو اشتراطات.
اشتغلت إحدى المحاضرات على مفهوم "فضاء المدوّنات" Blogosphère باعتباره فضاء موازياً لتخزين المادة التاريخية وتوفير فرص الوصول إليها. وعلى الرغم من كون الكتابة ضمن هذا الفضاء غير خاضعة للانظباط العلمي فإنه يقدّم للباحثين ما لا يعثرون عليه في المؤسسات المعترف بها، دون أن ننسى أن جزءاً من المساهمين في المدوّنات هم مؤرخون أو باحثون بكامل المؤهلات العلمية ويجدون في المدوّنات مساحة لتمرير آراء أو تفسير نظريات أو سرد وقائع دون انتظار النشر في المجلات العلمية أو موافقات مديري الأبحاث وغير ذلك.
في هذا الإطار، تحدّثت المكتبية مورغان بيرييه عن تجربتها في التدوين، وتحديداً حول الصور التي تشتغل على أرشفتها في إطار مهنتها. تشير بيرييه إلى أنها كانت دائماً تتحسّر على كون التصنيف المكتبي لا يضيء غير معلومات من قبيل مصدر الصورة ومكانها ونوعية التقنية المعتمدة، وهي معلومات مهمة لكنها اختزالية، فالصورة بحسبها تحيل على ذكريات وسرديات تاريخية موازية. تضرب هنا مثال صورة كانت بصدد أرشفتها لحي جرى تدميره خلال الحرب العالمية الثانية، وأنها وهي تقوم بذلك ضمن عملها اليومي تذكّرت حكايات حول الحي سمعتها من أبويها، مؤكّدة على أن هذا النوع من الحكايات يساعد على فهم أعمق للصورة، بل إنه هو من يمدّها ببعد بشري، وهو ما لا يمكن أن تعكسه المعلومات المكتبية.
من جانب آخر، يشير المشرفون على المحاضرات إلى الآفاق التي تتيحها المدوّنات، فمثلاً باتت الصورة التاريخية متداولة بين الناس ليس باعتبارها وثيقة تاريخية فحسب بل أيضاً لاعتبارات جمالية، كما أنها مرنة على مستوى التركيب بين الصورة والنص.
تشير إحدى المحاضرات إلى أن دخول "فضاء المدوّنات" لم يعد ترفاً بالنسبة إلى المكتبات والجامعات والجرائد، بل رهاناً حقيقياً تخصّص له الموارد المادية والبشرية، حيث شعرت هذه المؤسسات بأهمية هذا الفضاء، وأنه في حال لم تتعاون وسائل التخزين والتداول التقليدية مع الحديثة فإن القطيعة بينهما ليست في مصلحة أحد. وهذا الواقع الجديد الذي فرضته المدونات يشير إلى تحولات نحو مزيد من دمقرطة المعرفة التاريخية.
من منطلق تخصّصهم، يرى المكتبيون أن المدونات قد تساهم في ملء فراغات المعرفة التاريخية، إضافة إلى كونها تتيح الفرصة كي يصل ما في المكتبة إلى جمهور عريض، وهو مطمح يوتوبي للمكتبيين، كما أشار أحد المحاضرين، فيما يشير آخر إلى إحصائية تفيد بأن البحث التاريخي يوقعنا دائماً على ما هو مفيد ولم نكن نبحث عنه بشكل قصدي، مستشهداً بقول أحد العلماء: "ونحن نبحث بلا طائل عن تحويل المعادن إلى ذهب، اكتشفنا قوانين الكيمياء".