محلّات مفتوحة على اليمين وعلى اليسار وسلع معروضة على قارعة الطريق تستنشق دخان السيارات وتتجمّل بالأتربة والغبار وأخرى يقضي عليها الذباب الساعات الطوال، تلك هي الصورة في العديد من الأسواق والمحلّات والمخازن التجارية في تونس.
سموم في الأسواق
رغم المجهودات التي تبذلها فرق المراقبة الصحيّة والاقتصادية في كل ولايات الجمهورية، إلا أن ظاهرة "الإرهاب الغذائي" في تونس في انتشار مستمرّ، أمام أعين السلطات وفي بعض الأحيان على بعد أمتار قليلة من تواجد الجهات المختصّة المعنيّة بحفظ النظام والصحّة.
جولة قصيرة في بعض الأسواق التونسية والمحلّات المختصّة في بيع المواد الغذائية والجزارة كفيلة بمشاهدة العجائب، وملاحظة "السموم" التي يشتريها التونسيون بأموالهم ولا يدرون أو ربّما هم يدرون أنهم قد يدفعون حياتهم ثمنًا لذلك.
احتفل التونسيون قبل أيّام قليلة كغيرهم من الشعوب الإسلامية بعيد الأضحى المبارك، ولكن كثيرين منهم لم يستطيعوا شراء أضحية فقرّروا التوجّه إلى محلّات الجزارة لشراء كيلوغرامات معدودة من لحم الضأن غير مكترثين بالظروف الصحيّة داخل كثير من هذه المحلّات التي لا تحترم أدنى شروط حفظ الصحّة عند القيام بذبح الكباش.
لحوم فاسدة تغزو الأسواق
في مخالفة صريحة للقانون، يلجأ كثير من الجزّارين في تونس لذبح الخرفان والكباش داخل محلّاتهم في ظروف غير صحيّة ثم يقومون ببيع اللحوم لزبائنهم بدون مروره على الأطباء البيطريين الذين يصدرون تصاريح الإذن بالبيع بعد الانتهاء من الإجراءات الصحيّة المعمول بها.
صغار الجزّارين ليسوا بمفردهم المتورّطين في ترويج بضاعة غير صالحة للاستهلاك داخل الأسواق التونسية، ففي 9 من شهر آب/ أغسطس الماضي، كشف رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، عن الإطاحة بشبكة لتوزيع اللحوم الفاسدة والجيف والحيوانات المصابة بداء السل على الإقامات الجامعية والثكنات العسكرية بتواطؤ من أشخاص مؤتمنين على صحّة المواطن، مشيرًا إلى أن من بين المتورّطين في هذه القضيّة موظّفون من فرق مراقبة الصحة والمسالخ البلدية الذين يقومون بوضع التأشيرة على هذه اللحوم رغم أنّها فاسدة وغير صالحة للأكل.
في السياق نفسه، تحدّثت تقارير إعلامية محلّية عن تجاوزات خطيرة تحيط بتصنيع منتجات الدواجن التي تُباع في الأسواق على غرار "السلامي"، تؤدي إلى أضرار على الصحّة بسبب المركّبات الكيميائية التي يتمّ وضعها فيها من أجل إضفاء لون ورائحة وطعم فريد على المنتج، مثل أملاح "نترات الصوديوم" و"بوتيل هيدروكسي تولوين" و"غلوتامات الصوديوم الأحادية"، وهي عبارة عن ملح مكون من "الصوديوم" و"الغلوتامات" وتضاف للحفاظ على نكهة الأطعمة.
مكافحة الغش على رأس الأولويات
في مناسبات عديدة، كشفت السلطات التونسية عن حجز وإتلاف أطنان من اللحوم والدواجن والموالح الفاسدة لأسباب عديدة، كما أعلنت وزارة الصحّة عن إتلافها لمساحات زراعية كبرى في عدد من المحافظات يعمد مالكوها إلى استعمال مياه الصرف الصحّي لريّ المزروعات، كما حذّرت من استخدام ووجود مواد تجميل غير مطابقة للمواصفات وتمثل خطرًا على صحّة وسلامة المستهلك، على غرار معجون حنّاء تحت تسمية "راني كون Rani kone" يروّج في الأسواق الموازية بطريقة عشوائية، ومن تداول عطر "Relax"، مشيرة إلى أنه قد يؤدّي إلى الموت المفاجئ بعد فترة من استعماله.
وتتولّى مصالح المراقبة التابعة لوزارات الصحّة، الصناعة والتّجارة والدّاخليّة، اتخاذ التّدابير الضّروريّة بقصد تكثيف المراقبة على مستوى الأسواق الموازية ومسالك التوزيع غير المنظّمة لحجز وإتلاف المنتجات غير الصالحة للاستهلاك.
وفي هذا الصدد، يقول المكلّف بالإعلام بوزارة التجارة والصناعة منعم البكاري، إن تونس للأسف دخلت إلى جانب الإرهاب المسلّح في الجبال مرحلة "الإرهاب الغذائي"، من خلال انتشار مجموعات "مستكرشة" ترغب في تحقيق الرّبح المادي والثراء السريع على حساب سلامة المواطن.
ويضيف البكاري أن هذه المجموعات تتعمّد الغش وتدرك تمام الإدراك خطورة ما تُقدم على فعله، لكن أكثر من جهة مثل المراقبة الاقتصادية وإدارة الصحّة والمحافظة على المحيط وإدارة سلامة المنتجات وإدارة الجودة والمنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك وغيرها تسهر على ملاحقتها، مشيرًا إلى أن هذه "الفقاقيع والنباتات الطفيلية" تظهر دائمًا بعد كل الثورات لتحقيق الثراء السريع على حساب سلامة الأشخاص.
مافيا تنخر أجهزة الدولة
تؤكّد معلومات متطابقة تورّط أطراف نافذة داخل أجهزة الدولة في حماية كبار الفاسدين، ففي وقت سابق، ذكرت وثيقة سرّية تمّ توجيهها إلى وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلي، من نقابة الشرطة البلديّة، تحت بند "سرّي مطلق"، أن الإجرام يتواصل اليوم عن طريق التجارة بأرواح التونسيين وبيع الموت في المواد الاستهلاكية.
وأضافت الوثيقة أن أفراد الشرطة البلدية أصبحوا غير قادرين على مكافحة أو التصدّي للجهات الواقفة وراء ما سموها بـ"مخازن الموت" و"الإرهاب الغذائي"، لكونهم شخصيات سياسية ورجال أعمال نافذين في البلاد، مشيرة إلى وجود ثغرات قانونية ونقص في عدد الأعوان الساهرين على مكافحة هذا الفساد المستشري.
في سياق متّصل، أكد محمد الولهازي، كاتب عام نقابة الشرطة البلدية، معرفة أعوان الشرطة البلدية بكل المخازن وبؤر الفساد في العاصمة، وأنه في غياب اللجان المشتركة، وجدت الشرطة البلدية نفسها عاجزة عن ملاحقة أصحاب هذه المخازن، لكن مدير عام حفظ الصحّة والمحيط بوزارة الصحّة محمد الرابحي، قال إن فرق الوزارة منتشرة في كل المحافظات لمراقبة محلّات الغذاء وصفقات اللحوم والدواجن، مشيرًا إلى أن المراقبة تطاول حتى المنتجات المعروضة في المساحات الكبرى ومستودعات التخزين.
السلطات تتحمّل المسؤولية
ويقول مراقبون إن الجهات الرسمية تتحمّل مسؤولية كبيرة في عدم توعية التونسيين بمخاطر الفساد الغذائي، وخاصة أن الرقابة الدورية للمصالح المختصة لا تكفي وحدها للقضاء على هذه الظاهرة المنتشرة في البلاد. فعلى سبيل المثال، يلاحظ غياب الحملات التحسيسية والومضات الإشهارية المشجّعة على التبليغ عن الفساد الغذائي ومقاطعة المحلّات العشوائية وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته.
بشأن هذا الموضوع، قال رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك سليم سعد الله، إن التونسي يتعرّض باستمرار للغشّ، لكنه يتخلّص من المواد الغذائية الفاسدة ويصمت، لأنه تعوّد على اللجوء إلى منظمة الدفاع عن المستهلك عندما تتعلق المشكلة بغش في الأجهزة الكهربائية المنزلية ويرفض البائع تغيير البضائع الفاسدة، لكنه لم يتعوّد على رفع الأمر إلى الأجهزة والمنظمات المختصّة عندما يتعلق الأمر بعلبة غذاء أو منتوج غير قابل للاستهلاك.
بدورهم، ينبّه خبراء ومختصّون إلى أن العقوبات المالية المسلّطة على المتورّطين في قضايا الغشّ ليست في قيمة المخالفات المرتكبة، حيث لا تتجاوز أقصى عقوبة (صنف 3) الـ60 دينارًا (نحو 25 دولارًا) لمرتكب التجاوز، في وقت تشير البيانات الرسمية إلى أن خسائر الفساد تصل سنويًا إلى نحو 1.5 مليار دولار.
يذكر أن البرلمان التونسي شرع منذ إبريل/ نيسان الماضي، في مناقشة قانون السلامة الغذائية، الذي ينص على إحداث هيئة وطنية للسلامة الصحيّة وجودة المنتجات، تتمتّع بالاستقلالية الوظيفية وتعمل على تدعيم الجودة والرقابة الصحيّة على المنتجات المستوردة، وتغليظ العقوبات على المخالفين، لتصل إلى حدود السجن 7 سنوات وغرامات مالية تناهز 70 ألف دولار.