"الأيديولوجيا" بوصفها سبّة

11 فبراير 2016

مهرجان الجنادرية غير مخصص للتوظيف الإيديولوجي

+ الخط -
لماذا تمثل "الأيديولوجيا" غالباً، وحيثما وردت ضمن الخطاب الصحافي في السعودية، تهديداً وطنياً واجتماعياً شاملاً؟ أحدثها في تصريح صحافيّ، أدلى به رئيس اللجنة الثقافية لمهرجان الجنادرية، أكّد فيهِ أن المهرجان غير مخصص للتوظيف الأيديولوجي، ولا يقبل بالمثقف المؤدلج المتحزّب والمنغلق. ما المفهوم الذي تحمله الأيديولوجيا في هذا الخطاب، ويجعلها ناشزة، بل وغير محتملة الحضور والوجود، في تظاهرةٍ ثقافيةٍ، يُفترض أنها مخصصة لاستعراض الأفكار وتبادلها؟
تحضر الأيديولوجيا في ذاك الخطاب بمعانٍ عدة، يمكن تصنيفها في رزمتين، تراوح الأولى بين الأيديولوجيا نقيضاً للعقلانية ونقيضاً للعلمية، أو نشاطاً للتعبئة الجماهيرية، أو تحزباً سياسياً. ولجميع هذه المعاني صلة حقيقية، تزيد أو تنقص، بمفهوم الأيديولوجيا في أحد مجالات تداوله، لكن هذا لا ينقذ المفهوم من الإشكالات التي تحيط به في استعمالاته هذه ضمن الخطاب الصحافي.
ثمّة توجه جدليّ راسخ وقديم يستخدم "الأيديولوجيا" استخداماً تحقيرياً، لوصف الأفكار (دينية أو غير دينية) الخاطئة المقطوعة عن الوقائع الملموسة، والمناقضة للنزعة البراغماتية والحسّ السليم (فيليب برو، علم الاجتماع السياسي)، كما قدّم كارل بوبر الأيديولوجيا بوصفها نظاماً فكرياً (دينياً أو غير ديني) منغلقاً لا يمكن البرهنة على صحة ادّعاءاته ولا على خطئها. وعلى هذا الأساس، يكون معارضاً جوهرياً للعلم. غالباً تظهر "الأيديولوجيا" قريبةً من هذا المعنى، في الخطاب الصحافي الناقد لبعض الخطابات الإسلامية وأفكار الحركات الإسلامية، باعتبارها ضدَ العلم والعمليّة والعقلانية. وهذه ليست مشكلة، فالخطاب يظلّ، عند هذا المستوى، وفياً جزئياً لمدلولات المفهوم، لكن المشكلة في عجز الخطاب الصحافي نفسه عن استيفاء المفهوم تماماً، فأن يكون الخطاب الصحافيّ مناهضاً للأيديولوجيا (بالمعنى السابق) يقتضي أن يكون مناهضاً، في الوقت نفسه، لأيديولوجياتٍ أخرى متنوعةٍ، من بينها أيديولوجيات رسمية وممأسسة ومُهيمنة، ولا يمكن وصفها لا بالعقلانية ولا بالعلمية ولا حتى بالعملية. وأن يكون ناقداً لأي نظامٍ فكريّ، ينجرف نحو التصلّب والانغلاق متحولاً إلى "أيديولوجيا"، سواء كان ديمقراطياً أو ليبرالياً أو قومياً أو علمانياً أو اشتراكياً، وهو ما لا يحدث غالباً، وتبقى، في النهاية، وصمة الأيديولوجيا في ذاك الخطاب مقصورةً على بعض الخطابات الدينية. أما عند استعمال "الأيديولوجيا" في الخطاب الصحافي، باعتبارها أداة للتعبئة، التحشيد، الجماهيرية، فإن خلل الخطاب يبرز، في رؤيته، إلى قدرة الأفكار على التعبئة والتحشيد والانتشار الجماهيري، كخطر ماحق يتهدد النظام السياسي والاجتماعي، ويجب منعه بأيّ طريقة، على الرغم من أن أيّ حركة اجتماعية، أو سياسية، من الطبيعي أن تتطلع إلى التحشيد والانتشار الجماهيري، بوصفها أعمالاً مشروعة، وضرورية لتحقيق الأهداف، ألا تتطلع الأيديولوجيا النسوية، على سبيل المثال، إلى حشد الجماهير خلفها، وتعبئة النساء للعمل والضغط من أجل الحصول على حقوقهنّ؟ ألا تنحاز الصحافة نفسها للأيديولوجيا النسوية، وتساعدها في عملية التعبئة والوصول إلى الجماهير؟ أمّا عند استعمال "الأيديولوجيا" باعتبارها تحزّباً سياسياً، وباعتبار الأحزاب السياسية "جريمة"، فإنّ هذا يفرض تفحّص كامل الخطاب الصحافي حول القضايا السياسية المحلية والخارجية، وكيف يتقبّل الخطاب "التحزب السياسي" نفسه في الدول الأخرى، كأمرٍ مشروع وإيجابي، ويغطي أخبار الأحزاب والمنافسات الانتخابية، ثم يتحول هذا التحزب إلى جريمةٍ عند الانتقال إلى الشأن المحلّي، وهذا بدوره يفرض التساؤل عن مكمن الخطأ، أهو في وجود الأيديولوجيا - الحزب أم في الواقع الذي يعجز عن إيجاد حيّز توجد فيه الأيديولوجيا - الحزب، بصورة شرعية سياسياً؟
يشير فيليب برو، أيضاً، إلى وجود توجه آخر في مقاربة مفهوم الأيديولوجيا، وهو التوجه
العلمي الذي يتناول الأيديولوجيا كمنظومة تمثلاتٍ، تعمل في مجال المعتقد السياسي والعنف الرمزي. وفق هذا المفهوم، لا تكون الأيديولوجيا والأدلجة وصفاً تحقيرياً، بل إنهُ يُبرز قدرة الأيديولوجيا على بناء حدّ أدنى من المنطق الداخلي والبناء العقلاني، وقدرة الـمُعتقد الأيديولوجي على سدّ فراغات الواقع، وتبديد القلق الذي يثيره المجهول وتسهيل عملية الاختيار على الفاعل الاجتماعي. كما أن النقد، وفق هذا التوجه، لا يوجّه أساساً إلى الأيديولوجيا، ولا إلى عمليات الأدلجة، بل إلى "الهيمنة". كما يؤكد المجال السياسي الذي تحدث فيه عمليات التنافس والهيمنة وكبت الصراع، ما يعني أن حالات التوتر بين الأيديولوجيا المهيمنة والأيديولوجيات الـمُهيْمَن عليها هو توتر سياسي وصراع على السلطة، وليس صراعاً فكرياً في أساسه.
من خلال هذا التوجه تحديداً، يمكن فهم خطاب الصحافة السعودية عن الأيديولوجيا بكفاءة أكبر بكثير من التوجه الأول. إذ ينشغل التوجه الجدلي بنقد الأيديولوجيا، فإن التوجه العلمي ينشغل بنقد هيمنة أيديولوجيا معينةٍ على باقي الأيديولوجيات، ونفيها وإلغاء وجودها. ويبدو أن أهم خصائص الأيديولوجيا المهيمنة أنها لا تُنعت بالأيديولوجيا على الإطلاق، لأن هيمنتها على طرق التعبير تجعل ذلك عسيراً، بل تحضر في الخطاب كحقائق مجرّدة، ويحضر أضدادها الـمُهيْمَن عليهم كأيديولوجيات في سياق هجائي. على هذا الأساس أيضاً، يمكن فهم خطاب الصحافة حول "الأيديولوجيا" لا باعتباره هجاءً لكل أيديولوجيا وكل أدلجة (وإن حاول أن يبدو كذلك). لكن، باعتباره هجاءً مخصصاً لأيديولوجيا معيّنة مُنافِسة، استجابة للأيديولوجيا الـمُهيمِنة، وهذا يفسّر وجود الرزمة الأخرى من المعاني المعطاة للأيديولوجيا، والتي تتسم بارتباط ضعيف بالمفهوم مع حالة هجائية عالية. فربط الأيديولوجيا بالأعمال الإرهابية هو من قبيل الهجاء أكثر منه من قبيل التحليل، بما أن لكل تنظيم إرهابي أيديولوجيا، لكن الأيديويوجيا، بحد ذاتها، لا تقود حتماً إلى الإرهاب. والاحتفاء باستبعاد عدد من الكتب من مكتبات المدارس، وإنشاء برنامج مدرسيّ لمراقبة أفكار الطلاب، على أساس أن هذه الخطوة تساهم في إنقاذ التعليم من الأدلجة، هو احتفاء باستبعاد أيديولوجيا بعينها من مجال التنافس الأيديولوجي الموجود في التعليم. وتعريف الأيديولوجيا على أنها نقيض للوطنية هو ترفيع للوطنية من كونها فكرة غامضة، تنبني على سردية سياسية غير قابلة للبرهنة أو الدحض، إلى مرتبة الحقيقة، بينما تصبح الأيديولوجيا، أو الفكرة المفارقة قليلاً لهذه السردية السياسية، خيانة وطنية.
أصبحت الأيديولوجيا، بفضل هذا الخطاب، تُهمة تُشعر الـمُتّهم بالإهانة، ووصفاً يثير الذعر في قلوب الشهود. وما هو مهمّ للغاية الآن أن يتوقف الجميع عن الخوف من الأيديولوجيا، ويشعروا بقدر أكبر من الخوف، من اختفاء الأيديولوجيات، واختفاء مظاهر التنافس والصراع، لأن هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً، هو أن أيديولوجيا وحيدة نجحت في إبادة كل ما سواها.
@Emanmag


avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع