ذهبت الأدبيات الكلاسيكية إلى ربط دور المدرسة بنشر المعرفة والعلم. لكن المدرسة، وهي تقوم بهذا الدور، كانت تخلق هرميات من خلال البحث عن القدرات العلمية والإبداعية وتصنيفها حسب الكفاءة، بينما باتت تظهر لاحقاً تنظيرات عديدة حول حصر غايات التعليم بزيادة معدّلات النمو ومؤشّرات القدرة التنافسية.
فرَض التطوّر الهائل في العملية التعليمية، منذ منتصف القرن الماضي، مراجعات جديدة لجملة من المفاهيم والأفكار التي تعيد النظر في فلسفة التنشئة برمتها، تتساءل إن كانت وحدها كفيلة بتقدُّم الفرد والمجتمع على مقاييس الحرية والكرامة والرفاهية. وبالطبع، فإنه لا مقولة حاسمة حول كلّ ذلك.
في كتاب "الأنثربولوجيا والتعليم"، الذي صدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزّعون"، ترى الباحثة الأردنية إيناس خضراوي أن التعليم يمرّ بمرحلة انتقالية، ليس فقط في العالم العربي، بل في جميع أنحاء العالم، لافتة إلى أن الطالب بكامل جاهزيته لأي تغيير، على عكس المعلّم والمناهج والمؤسسات التعليمية التي ما زالت تبحث عن الحلول.
إصلاح هذه المكوّنات لم يعد ممكناً خارج التمكين التكنولوجي الذي بات يغيّر كل آليات العملية التعليمية وأدواتها ومخرجاتها، ويحتاج إلى دراسات أنثروبولوجية لفهم كيفية استخدامها وتوجيهها وتوظيف إمكانياتها، بحسب المؤلّفة التي بنت دراستها على هذه النقطة لفهم تاريخ التحوُّلات المعرفية.
تفصّل خضراوي تطوّر التعليم من وجهة تاريخية، عبر مقارباتها للتحوُّلات المعرفية التي انتقل فيها الإنسان من الحقبة المشاعية (الصيد والالتقاط)، ولم يكن التعليم فيها منتظماً، إلى الحقبة الزراعية التي ارتبطت بالاستقرار وانتظار النضج والقطف، حيث ارتبط التعليم بالعمل، وصولاً إلى مرحلة التكنولوجيا التي اخترقت الحدود والخصوصيات.
وتشير المؤلفة إلى تغيّر مفاهيم عديدة في هذا السياق، حيث إن مفهوم الأمية لم يعد مقترناً بالقدرة على القراءة والكتابة، وبات محوها يؤشّر إلى القدرة على استخدام المعلومات من خلال الألواح الرقمية والحواسيب والهواتف المحمولة، واستخدام المهارات التقنية والاستراتيجيات المعرفية والاجتماعية، وكيفية تحليل المعلومات والحصول عليها وربطها.
تنتقل خضراوي بعد ذلك إلى نقاش التغيّر المطلوب في المناهج، فكل ما يحتاجه الطالب هو تنظيم هذه المعلومات وتنظيم عملية الحصول عليها، ومن ثم التنبؤ بتأثيرها على الطالب. وتناقش المؤلّفة النماذج المصمّمة للتدريس، قبل أن تختم كتابها بالحديث عن الاستدامة في التعليم، والتي تتطلّب - حسب قولها - عوامل عدّة من بينها: الاعتراف بالتعليم غير النظامي، وزيادة كفاءة المعلّم، ووضع خطط مستقبلية لمواجهة التغيرات الممكن حصولها في المستقبل، وإحقاق لامركزية التعليم.